ما
تعرضت له قطر
من شتيمة وحملة شرسة من قبل بعض الأوساط الأوروبية -حتى لا نعمم- يتجاوز البعد اللا أخلاقي الذي تحدث عنه
رئيس الفيفا بشجاعة وجرأة، ليعيدنا إلى ذلك الإرث اللعين الذي كلما أردنا أن
نتجاوزه وننساه نراه قد عاد من جديد في ثوب مختلف، وبمناسبة أو بغير مناسبة. نقصد
ذلك الصراع التاريخي بين
أوروبا تحديدا من جهة، والعالم العربي والإسلامي من جهة
مقابلة.
لست هنا في موقع
الدفاع عن
قطر، فكتابها وإعلاميوها وسياسيوها هم أولى وأقدر على فعل ذلك، لكن
الذين قاموا بهذه الحملة أعادونا إلى نقطة الصفر بعد أن ذهب بنا الظن إلى أن
العلاقة بين ضفتي المتوسط قد تخطت هذا الخطاب المشحون بتحقير الطرف المقابل، ونقلت
الخلاف الذي لا يزال قائما إلى مستوى أرقى من حيث الشكل والمضمون.
هناك أوروبيون
يرفضون للأسف التخلي عن
إرثهم الاستعماري، ويصرون على مخاطبة شعوب هذه المنطقة من فوق
هضبة عالية، ولم يقبلوا حتى الآن بأن من حق هذه الشعوب التي أصيبت بردة حضارية أن
تشارك بنديّة في إدارة الشأن الدولي، مع وعيها باختلال موازين القوى. فحركة
التاريخ لا نهاية لها، والقوي بالأمس لم يعد كذلك اليوم. أوروبا في القرن الثامن
والتاسع عشر حين كانت تحكم جزءا واسعا من الكرة الأرضية، أصبحت اليوم تسمى بالقارة
العجوز، ووجدت نفسها مضطرة للمرة الثانية للاحتماء بأمريكا لـتأمين حدودها
ومصالحها الاستراتيجية، وما حدث في حرب روسيا على أوكرانيا ليس ببعيد.
يوجد مبرر واحد لكي يشن هؤلاء العنصريون الجدد هجومهم على قطر، فالجريمة الوحيدة التي ارتكبتها هذه الدولة الصغيرة أنها سعت نحو استضافة كأس العالم، ونجحت في ذلك، وأبهرت الجميع بقدرتها على التنظيم، وأنفقت المليارات بشكل خيالي حتى تسعد ضيوفها، حتى شهد لها كل المهتمين بالرياضة بأن هذه الدورة كانت الأفضل من حيث التنظيم مقارنة بجميع الدورات السابقة
لا يوجد مبرر واحد
لكي يشن
هؤلاء العنصريون الجدد هجومهم على قطر، فالجريمة الوحيدة التي ارتكبتها
هذه الدولة الصغيرة أنها سعت نحو استضافة
كأس العالم، ونجحت في ذلك،
وأبهرت الجميع
بقدرتها على التنظيم، وأنفقت المليارات بشكل خيالي حتى تسعد ضيوفها، حتى شهد لها
كل المهتمين بالرياضة بأن هذه الدورة كانت الأفضل من حيث التنظيم مقارنة بجميع
الدورات السابقة. فهل هذا الرهان وهذا النجاح يستحقان الهجوم السخيف؟ هل في ذلك
رسالة يشير أصحابها إلى أن العرب والمسلمين لا يحق لهم التطلع إلى أي موقع ريادي في
مختلف المجالات بما في ذلك المجال الرياضي؟ إن كان هذا هو السبب المتأصل في بعض
النفوس، فهو يدل بالتأكيد على أن المعركة لا تزال طويلة وشاقة، معركة تصحيح
العلاقات الحضارية وتحقيق المساواة الثقافية بين الشعوب.
فعندما سئل أحد
الصحافيين الفرنسيين عن الشيء الذي أزعجه في الدوحة بعد زيارته لها، أجاب بسرعة ودون
تحفظ "كثرة المساجد". هل يمكن اعتبار هذا الجواب وجهة نظر قابلة للمناقشة
بجدية واحترام؟ بالطبع لا، لأن صاحبها صحفي له موقعه في صناعة الرأي العام المحلي
على الأقل، ويفترض فيه أن يكون عالما بأن لكل بلد
خصوصياته وثقافته. وبما أن قطر
دولة مسلمة فمن الطبيعي أن يكون المسجد رمزا لهذا الانتماء الديني والهوياتي،
ويفترض في هذا الصحفي أن يحترم ثقافة كل بلد يزوره، حتى لو اختلف مع ديانته ونظرته
للحياة. لكن وبما أن كثرة المساجد أزعجته فذاك دليل على تحامله وعدم إيمانه
بالتنوع الثقافي والديني، وفي هذه الحالة ما الذي دفعه لزيارة بلد تزعجه تقاليده
ومنهج حياته الخاص؟ وهل المطلوب من كل دولة تنوي احتضان تظاهرة عالمية سواء أكانت
رياضية أو فنية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية؛ أن تتخلى عن خصوصياتها لكي يسمح
لها بتنظيم تظاهرة دولية؟ وهل هناك دولة في العالم ملتزمة بشكل كامل بتنفيذ جميع
بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ أليست لكل دولة بما في ذلك أمريكا وفرنسا
وغيرها الحق في التحفظ على أي مسألة واردة في هذا الإعلان لأسباب تخصها؟ ألم تساعد
هذه الآلية الحكومات والشعوب على أن تؤسس لأرضية مشتركة فيما بينها، تنخرط بدرجات
متفاوتة في هذا العالم المتشابك والمتعدد، وأن تتدرج في الاقتراب من بقية الحقوق؟
والغريب أن درجة الاستهزاء بالغير عند صحيفة
بريطانية بلغت حد الكذب الرخيص حين
زعمت بأن فريق كرة القدم الإنجليزي لم يتمكن من النوم بسبب أصوات الجمال!!
ليس الجهل وحده الذي يفسر هذه المواقف العدائية الصادرة عن بعض النخب الأوروبية، وإنما هناك تراث مشحون ومتوارث لا يزال يفعل فعله في الأعماق والنفوس
ذكرني هذه الترهات بجلسة جمعتني بأفراد أسرة أمريكية طيبة
استقبلوني في بيتهم بكل ترحاب، ودعوا لهذه الجلسة جيرانهم للتعرف على شخص جاءهم من
تونس التي لا يعرفون حتى موقعها الجغرافي. كنت أستمع لأسئلتهم وأنا مندهش؛ سألوني
إن كان لي جمل أو حمار يساعدني على التنقل داخل القرية وبين الجبال، كما سألوني
بالخصوص عن عدد زوجاتي، وكيف أدير العلاقة بينهن. وتبين لي حجم الجهل الذي يعاني
منه هؤلاء الأشخاص الطيبون جدا، رغم أنهم يعيشون في دولة تحكم العالم الذي لا
يعرفون عنه سوى معلومات متفرقة؛ الكثير منها أخبار زائفة صنعتها أفلام هوليود.
ليس الجهل وحده
الذي يفسر هذه
المواقف العدائية الصادرة عن بعض النخب الأوروبية، وإنما هناك تراث
مشحون ومتوارث لا يزال يفعل فعله في الأعماق والنفوس. المهم ألا تكون الردود من
جنس تلك الأفعال، ولعل الجواب الأفضل على هذه الأفكار الغبية هو الرهان على كسب
المعرفة، وتطوير الوعي، والارتقاء بالإنسان واحترام حقوقه، وأخيرا تعميق الحوار مع
الجميع.
ما حصل في قطر من
خلال تنظيم كأس العالم قد يساعد على تغيير الصورة وتنقية بعض النفوس. نحن لا نطلب
من هؤلاء الدفاع عن احترام خصوصية المختلف معهم، لكن على الأقل لا تشتموهم، فهذا
اعتداء وتطاول يفترض أن يحاسبوا عليه.