هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«كان وعد منك كان حلم منا
قالت الشفايف شافت عيونا
قوس الشتويه سبع ألوان»
صلاح جاهين
في التاريخ كما في السياسية، كثيراً ما
تكون الاكتشافات والمفاجآت غير سارة، سلبيةً ومزعجة، خاصةً في منطقتنا، حيث الدول الخارجة
من تحت ربقة الاستعمار والتي لم يلبث أغلبها أن رُزئ بأنظمة حكمٍ متسلطةٍ متهورة زاد
إجرامها وتغولها على الحريات ولصوصيتها مع الوقت، وتعاقب حقبٍ تكلست وترهلت فيها على
مقاعد السلطة، حتى حين أتت بـ»مفاجآتٍ» سارة، سرعان ما أكلتها الخيبة والثغرات، كشأن
حرب أكتوبر 73 علي سبيل المثال لا الحصر.
جُل مفاجآتنا قاسٍ مؤلم، وأحلامنا يدفنها
الإحباط أمام أعيننا، نصعد إلى حالقٍ على أجنحتها لنسقط مرتطمين على رؤوسنا، فتدق أعناقنا
ونتكسر كلياً؛ إلا أن الأقسى من تلك المفاجآت والاكتشافات، ربما هو مواجهة الذات والاعتراف
بالخطأ وسوء التقدير.
هذه الأيام، وبغض النظر عن التصريحات العنترية،
التي وحده الله يعلم من أين تصدر، فالأكيد أن الاقتصاد المصري يمر بأزمةٍ واستعصاءٍ
شديد الخطورة؛ لستَ في حاجةٍ للنظر والتأمل في المؤشرات الاقتصادية (وفيها ما يزعج
جداً بكل تأكيد) كما أن جل المواطنين لا يفهمها، بل يكفي أن ترى انهيار قيمة العملة
المحلية أمام الدولار وارتفاع الأسعار الجنوني من ثم تأثيرها المدمر على الأسر، وإن
ذلك الانطباع ليترسخ حين تسمع عن هذه البعثة الحكومية، أو تلك التي مضت إلى بلدٍ ما
أو هيئة إقراضٍ ما، ليس آخرها صندوق النقد لتتفاوض وتقترض مبلغاً هو في نهاية المطاف
هزيل ولا يشكل أي نسبةٍ ذات شأن من حجم الدين العام الخارجي، أو العوائد المستحقة عليه.
بات من الصعب إذن الاستمرار في خداع الذات والتصديق بأن ذلك الانزلاق السريع «تحت السيطرة»،
وأن المسار سينعكس وفق تخطيطٍ مسبق فيبدأ التعافي، أو أن معجزةً ما ستحدث لتعكسه، كما
بات من الصعب الاحتفاظ بأي أوهامٍ عن كون الحكومة أو القيادة تعرف جيداً ما تفعل.
باختصار، فإن نُذر العاصفة تتجمع في الأفق،
والغالبية العظمى الآن إما تراها أو تشعر بها، وهزُلت حتى أوشكت على الانقطاع أواصر
خداع الذات وإقناعها بمقولات التفاؤل الأحمق غير المبرر، أو بالنظر إلى «عصفورة» الكباري
والطرق السريعة، كما أننا نستطيع أن نقرر بدرجةٍ عاليةٍ من الارتياح أننا أمام مفترق
طرقٍ، لكن بأكثر من معنى، ليس فقط في مصير البلد، ولكن بين الدولة والناس؛ مضت مرحلة
الوئام أو «شهر العسل»، حيث كان الطرفان متوائمين بمعنىً ما، ولست مبالغاً في تقديري
إذ أزعم أن الناس يشبهون مركباً شرد بعيداً عن الحكومة ووعودها. لكن بطبيعة الحال يظل
ويكبر السؤال: كيف وصلنا إلى تلك الحال، حيث تفغر الكارثة الاقتصادية أمامنا كمدخل
كهفٍ مظلم يوشك أن يبتلعنا ونحن كمن تحمله قاطرةٌ مسرعة لا يستطيع إيقافها؟ الإجابة
في رأيي تكمن في كلمةٍ واحدة، أو حقيقيةٍ، تقبع راسخةً كصخرةٍ في قاع الوعي الفردي
والجماعي، خاصةً لدى الطبقة الوسطى المصرية فما فوقها، على رثاثتها أو هُزالها متعددي
المعاني والمناحي والجبهات: الشعور بالهزيمة. إن ذلك الشعور بالهزيمة والضآلة، دائماً
أمام الغرب ومؤخراً، أي في العقدين أو الثلاثة الأخيرة أمام الدول العربية «الشقيقة»،
هو السبب وراء التشبث بالأوهام وخداع الذات والتعلق بكل من يعيد صياغة أوهام التفوق
وإمكانية الخروج من استعصاء التاريخ لتتبوأ مصر مكانتها (المتصورة أو المرجوة أو المزعومة)،
من يضمد جراح صورة الذات منعكسةً في المشاعر الوطنية الجريحة.
لقد كانت ثورة يناير كاشفة، كما هي كل ثورة
في حقيقة الأمر، كشفت للناس كم الفساد والتردي والترهل، كما أشعرتهم بمقدرة الناس على
الفعل والحراك وتغيير مجرى التاريخ وبحقهم المهدر في المشاركة في المجال العام وصناعة
القرارات.
لكن تلك «الاكتشافات» لم تشذ، كما أسلفت،
عن كونها مؤلمة وقاسية، ولئن كان الناس سابقاً يقارنون بين الرفاهية والتطور، على الأقل
الظاهري، في الغرب وما يرونه في بلدان الخليج العربي، التي يحتكون بها بصورةٍ أوثق
حيث ارتحل ملايين الناس إليها في مراحل ولمددٍ متفاوتة، فإن الألم من التفاوت زاد حين
علموا أن كثيراً من الفرق يعود لسوء إدارة النظام المصري، وأُلقيت المسؤولية على شخص
مبارك، لا البنية الأعمق للنظام برمته، فتلك المفاهيم للأسف ضبابية في المجمل نتيجة
تزييف الوعي وتشويهه طيلة عقودٍ من قبل ذلك النظام الشمولي المسيطر. ولم تقف التحديات
عقب الثورة بما يفضح هُزال الدولة المصرية على ضخامتها (التي تبين ترهلها) فمثلاً هناك
الهجمات المتكررة على وحدات الجيش المصري في سيناء، كما أن حالة انعدام الاستقرار والغلاء
وزيادة صعوبة الحياة، هزت ثقة الناس في أنفسهم وفي الثورة التي لم يجنوا منها شيئاً
مادياً يُذكر ينعكس على حياتهم اليومية.
لقد كان الناس، في إحباطهم وحيرتهم ورثائهم
لمصيرهم وحزنهم على حال بلدهم مهيئين تماماً لتلقي حلاً يأتي في صورة معجزةٍ تقلب الموازين
بسرعةٍ، أو في صورة مخلص. هنا دخل السيسي على المسرح، بتلك النجوم والنسور والسيوف
التي تزين كتفيه وتؤكد انتماءه لمؤسسةٍ غُرس فيهم أيضاً وطنيتها التي لا يرقى إليها
شكٌ، بما يمثله من وعدٍ مضمرٍ بالاستقرار و»المألوف» الرصين عوضاً عن فترة القلاقل
والشباب المتحمس، حديث السن ضئيل التجربة بما يرونها «شطحاتٍ» في صورة اقتراحاتٍ وتصوراتٍ
تخيف الجمهور وتهز قناعاته، بوعوده عن مصر التي ستصير «قد الدنيا»، فتلقفوها كالأرض
العطشى، بكل ما لُقنوه وغُرس فيهم عبر السنين عن مكانة مصر ودورها، حتى صار التفوق،
خاصةً على العرب، استحقاقاً كما لو كان وراثياً أصيلاً. وقد تملق هو ذلك، وشرع في تشييد
مبانٍ ومدنٍ عديدة تخدم أغراضاً وفوائد متنوعة، لكنها بالإضافة إلى المكسب المادي المباشر،
الذي يسمح بملء صناديق وخزائن المؤسسة العسكرية، بما يمكنه أيضاً من شراء ولاءات الضباط
والخشداشية والابتعاد والانعزال المكاني بما يخدم أغراضاً أمنية في صورة العاصمة الإدارية
الجديدة، فإن الجمهور، مُزيف الوعي مشوهه كما اتفقنا، كان يرى تلك المباني والطرق،
التفريعة الجديدة لقناة السويس، ويشعر بالسعادة، متصوراً أن تلك طريق التطور والتقدم،
فتغاضى عن الجرائم والقتل، أو اختار ألا يصدقها أو يصدق أن من قتلوا كانوا يستحقون
ذلك، لقد استسلموا لنشوة الأحلام والأغاني الحماسية، حتى حين… حتى تبينت ضآلة الجدوى
أو انعدامها، وأن هناك فواتير لا بد أن تُسدد، وأن القروض وفوائد خدمتها مستحقة. حتى
تبين أنهم أسهموا في خلق الوحش، في السماح للنظام بإعادة إنتاج نفسه وأطرافه المبتورة
وتضميد جراحه، بصمتهم المتواطئ، باختيارهم تصديق الكذبة، أملاً أو خوفاً أو يأساً،
أو كلها مجتمعة.
حتى أصبح الغلاء لا يطاق، وانهيار العملة
أسرع وأعنف من أن يتمكنوا من إنكاره، فاختار كثيرون، تصديق أنها الحرب في أوكرانيا
وارتفاع أسعار الوقود، أن العالم كله يعاني، وهم أنفسهم الذين صدقوا وما يزالون المؤامرة
الكونية على مصر، لكن هذه الحجج لا تملأ الجيوب ولا تشتري الطعام والدواء والحاجيات
الأساسية، ولا تسد الأقساط، قد يخدع المرء نفسه طويلاً وكثيراً، لكن الواقع يفرض نفسه
في نهاية المطاف.
لقد التقت أحلام الناس بوعود السيسي، كان
يعدهم بالخلاص، بمجرد تصديقه والانقياد له، وهم لأسبابٍ تاريخيةٍ عديدة، ليس هنا المجال
للاستفاضة فيها، لم يعتادوا الحرية بقلقها، باختياراتها وما تحمله من تبعات، من مسؤولياتها،
فآثروا التسليم له، وعوضاً عن العمل استسلموا للأحلام، حتى أفاقوا على الكارثة المحدقة
والخوف قد تجسد وترسخ يملأ الفراغات في كل مكان، حولهم وبينهم، في داخلهم، ويتعين أن
لا ننسى دور الدولة العميقة في افتعال الأزمات وتعميقها تهيئةً للناس لقبول الانقلاب.
لقد التف حبل الديون حول رقبة السيسي، وليس
لديه ما يقدمه للناس من تنازلات حتى لو رغب في ذلك، لم يبق سوى الأكاذيب والعنف أو
مجرد التهديد به.
سيستمر البعض في إنكار الواقع البائس الواعد
بالمزيد من البؤس والصعوبات ما استطاعوا، كمجلس الوزراء في تصريحه الأخير لطمأنة الناس
عن حسن أداء الحكومة، لكن الغالبية العظمى لم يعد لديها سوى الشعور بالهزيمة، بأنهم
«ضُحك عليهم»، بأن المقبل أسوأ، بالخوف من النظام والمقبل، بالشعور العام بالغضب من
كل شيء، من السيسي والحياة، من أنفسهم لأنهم صدقوا، لأنهم استُغفلوا، ومن ثم تبدأ دورةٌ
من «نحن فاشلون ولا نستحق أكثر من ذلك»، و»كأن ماله مبارك؟ لقد كنا أفضل مما نستحق!
«.
بسرعةٍ تتساقط الأكاذيب عن عوار وفشل النظام
كأوراق الشجر في الخريف، تنزلق بيسر، وستحفل الفترة المقبلة بتطوراتٍ سريعة والعديد
من المفاجآت غير السارة والمزعجة.
(القدس العربي اللندنية)