كتاب عربي 21

بطل العالم (مقالات كروية- 1)

جمال الجمل
حقق ميسي حلمه بحمل كأس العالم- تويتر
حقق ميسي حلمه بحمل كأس العالم- تويتر
(1)

لم أتابع مباريات كأس العالم بالاهتمام والتفرغ الذي كنت عليه في شبابي، تابعت القليل منها، وحرصت على متابعة الحدث الكبير من خلال الأخبار والمفاجآت ومشاهدة الأهداف وملخصات المباريات، وتأمل الجوانب الثقافية والاجتماعية للظاهرة المونديالية، باعتبارها "حدثا كونيا" يمنح المتأمل الكثير من المعلومات المهمة عن حال العالم على كافة المستويات تقريبا: السياسة.. الاقتصاد.. الإعلام.. ونوعية القضايا التي يحملها الناس في رؤوسهم، ثم أخيراً تأتي الرياضة كمتعة فنية دائمة، حتى بعد أن تحولت إلى سلعة رابحة يتحكم فيها أباطرة المال في زمن "السوق العظيم".

وفي السطور التالية أفتتح سلسلة من المقالات عن "كرة القدم" وعلاقتها الوثيقة بالكرة الأرضية، وأقصد بهذا التعبير أن اهتمامي بكرة القدم لن يركز على الملعب، بل على الفضاء الواسع المحيط بالمستطيل الأخضر، وانعكاس السياسات الدولية وهيمنة الإعلام على كل شيء حتى مشاعرنا في تشجيع هذا المنتخب أو ذاك، حتى لو كان ذلك التشجيع يتناقض مع مواقفنا السياسية ورؤانا الفكرية ومصالحنا المعيشية. وبدون تنظير كثير تعالوا نجرب محاولة استشكاف أنفسنا من خلال تأمل علاقتنا كمشجعين بالرياضة الأكثر شعبية في العالم.
اهتمامي بكرة القدم لن يركز على الملعب، بل على الفضاء الواسع المحيط بالمستطيل الأخضر، وانعكاس السياسات الدولية وهيمنة الإعلام على كل شيء حتى مشاعرنا في تشجيع هذا المنتخب أو ذاك، حتى لو كان ذلك التشجيع يتناقض مع مواقفنا السياسية ورؤانا الفكرية ومصالحنا المعيشية

(المباراة النهائية)

لم أنتبه لمباراة فرنسا والأرجنتين في نهائي المونديال إلا بعد سماع صيحة الاحتفال في الشارع المجاور، فقد تعودت على هذه الصيحة بعد إحراز أي هدف، فلكل فريق أو منتخب أنصار يشجعونه، فتحت التلفزيون وفوجئت بأن الأرجنتين تتقدم على فرنسا بهدفين، وانتهى الشوط الأول بهيمنة كاملة لأمريكا اللاتينية على البطل الفرنسي الذي ظهر في حالة مشوشة وهزيلة.

كانت تتناقض في داخلي رغبة فوز الأرجنتين كممثل للعالم الثالث ضد المركزية الأوروبية، لكنني لا أتعاطف مع "نموذج ميسي"، فبرغم مهاراته (التي لا ينكرها عاقل) إلا مواقفه العامة وميوله الصهيونية صنعت حاجزا بيني وبينه، فبينما كان "المتمرد مارادونا" يعلن أن "قلبه فلسطيني"، يكتفي ميسي بأنه آلة لجمع المال، ويخدم إسرائيل في كثير من التصريحات والتحركات. في المقابل أشعر بتعاطف من "النموذج الفرنسي" كحالة كوزموبوليتانية يتفوق فيها الملمح الأفريقي الأسمر على عنجهية البيض الأوروبيين، لكن وجود ماكرون في المدرجات يذكرني بالسياسة الأوروبية وطريقة تعاملها مع المهاجرين، بالرغم من أنهم يصنعون تفوقها في "الميادين"..

هذه المشاعر المتضاربة جعلتني أرغب في انتصار فريق غائب (غير الاثنين)، وهذه المتلازمة المحيرة رافقتني في السنوات الأخيرة في كثير من المواقف السياسية والدرامية، فقدت الحماس للموجودين على أرض الملعب، وأتمنى الانتصار لفريق لم يظهر وبالتالي لم يلعب بعد.. العامل الشخصي المتمثل في الأفراد (ميسي نموذجا) يمنعني من تمني الانتصار الكامل للفريق الأقرب لعقلي وأحوالي، والعامل "الدولجي" يمنعني من الانتصار لفرنسا التي تمثل "المركزية الأوروبية" وتذكرنا بالوجه الاستعماري القديم، خاصة في الجزائر التي ساهمت في صنع المجد الكروي لفرنسا متمثلا في قامات مثل زيدان وبنزيما ولا أستبعد امبابي أيضا من ذلك..
العامل الشخصي المتمثل في الأفراد (ميسي نموذجا) يمنعني من تمني الانتصار الكامل للفريق الأقرب لعقلي وأحوالي، والعامل "الدولجي" يمنعني من الانتصار لفرنسا التي تمثل "المركزية الأوروبية" وتذكرنا بالوجه الاستعماري القديم

(ميتافيزيقا)

في استراحة ما بين الشوطين سرحت بأفكاري وأمنياتي وسألت نفسي: ماذا أريد؟..

المبارة لا بد أن تنتهي بفائز، فأيهما يسعدني فوزه أكثر؟

بعد نقاش بندولي مع النفس كانت الرغبة في فوز الأرجنتين تتفوق بفارق بسيط على فوز فرنسا، لكن لا يجب أن يحدث ذلك بانتصار فردي كبير لنموذج ميسي، فتمنيت أن يتألق "امبابي" وأن يحرز هدفين ليحصل على لقب "الهداف" فينتصر في المقابلة الفردية مع ميسي، ثم تفوز الأرجنتين بضربات الترجيح، فلا تخسر فرنسا كرامتها الرياضية على الجانب الشعبي، ولا يفوز ماكرون في بيع البطولة لجماهيره التي تعاني من سياسات الناتو وتورط الإليزيه في خدمة التوجهات الأمريكية بعد عقود من الاستقلال للفرانكفون في مقابل الأنجلوفون..

سارت المباراة وفق أمنياتي، كأنها خطة متفق عليها في شركات المراهنات، أو كأنها ميتافيزيقا غامضة تخبرني أن الرب معي..

قالت ابنتي" إيه ده؟.. انت أمنياتك بتتحقق بالتمام، مش تطلب لنا فيلّا أو رصيد في البنك؟

ابتسمت وأنا أتذكر تصريحات المدرب الفرنسي ديشامب، كانت غير دبلوماسية بالمرة، فهي جريئة إلى حد الوقاحة، ومتمردة إلى حد يستدعي الإعجاب، فقد ذكر أن معظم العالم يتعاطف مع الأرجنتين ويرغب في فوزها، واعترف أن هذه النتيجة ستفرح مئات الملايين في أنحاء الأرض، ثم أضاف: لكنني متخصص في إفساد فرحة الآخرين!

أتحفز دائما ضد تمرد الأقوياء والمتسلطين، لأنني أعتبره "غطرسة" وليس "تمردا محبوبا". وقد لمست تلك الغطرسة في موقف ديشامب من اللاعب الفذ "كريم بنزيما"، كما لمسته في موقف سانتوس مدرب البرتغالي من كريستيانو رونالدو

هذا السير عكس اتجاه المشجعين يعجبني بمقياس الجرأة والتمرد وعدم الاستسلام للسائد في السوق، لكنني أتحفز دائما ضد تمرد الأقوياء والمتسلطين، لأنني أعتبره "غطرسة" وليس "تمردا محبوبا". وقد لمست تلك الغطرسة في موقف ديشامب من اللاعب الفذ "كريم بنزيما"، كما لمسته في موقف سانتوس مدرب البرتغالي من كريستيانو رونالدو، وتذكرت مقالا قدميا كتبته في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعنوان "الحاكمية للجوهري" ينتقد تسلط الإدارة على الموهبة بعد استبعاد مدرب منتخب مصر محمود الجوهري للهداف الألمع في تلك الفترة "طاهر الشيخ"، ولا يخفى عليكم أن هذه النزعة الديكتاتورية تنشّط في الأحرار غدد المقاومة لكل متسلط، لذلك تمنيت خسارة البرتغال، كما تمنيت خسارة فرنسا (مع الرأفة).

(البطل)

لا أرتاح لنموذج "النجم" في أي مجال، ولا يعجبني هيمنة "عرض الرجل الواحد"، يعجبني نموذج "البطل"، والفارق كبير عندي بين "النجم" و"البطل"، فالنجم يلمع تحت الأضواء ويقبل التوظيف في دولة البروباجندا والإعلانات ومافيا المصالح وتربيطات الجوائز. النجم يواكب ويساير ويقبض، أما البطل يعاكس، ويعارض، ويضحّي، ويدفع، ويخلص في الخفاء كما يخلص تحت الأضواء.

والمؤسف أن ظاهرة النجوم طغت على "كرة القدم" وعلى معظم مجالات حياتنا، حتى انحسر ظهور الأبطال وصاروا "نفحة نادرة"، ولما فكرتُ فيمن يكون "البطل" في كأس العالم 2022 في قطر، لم تسعفني معلوماتي بإجابة موثوق منها، لأن الإجابة تقتضي البحث في تاريخ مئات اللاعبين والإداريين وأولياء الأمور، على غرار فيلم "الملك ريتشارد" الذي قدم لنا الأب الفقير (ريتشارد ويليامز) باعتباره "البطل" الذي صنع نجومية ابنتيه (فينوس وسيرينا) في لعبة التنس.
ظاهرة النجوم طغت على "كرة القدم" وعلى معظم مجالات حياتنا، حتى انحسر ظهور الأبطال وصاروا "نفحة نادرة"، ولما فكرتُ فيمن يكون "البطل" في كأس العالم 2022 في قطر، لم تسعفني معلوماتي بإجابة موثوق منها، لأن الإجابة تقتضي البحث في تاريخ مئات اللاعبين والإداريين وأولياء الأمور

وفكرتُ في كيليان امبابي بعد ظهور علاقته الودية مع زملائه المغاربة، والحرص على الصداقة الجميلة من مخالب المنافسة وأمراض النجومية، ثم قلت لنفسي إن السيدة فايزة العماري (والدة مبابي) قد تكون هي البطل.. فهي "الملك ريتشارد" في حياة ابنها. حتى أن العالم لا يتذكر السيدة ذات الأصول الجزائرية باعتبارها رياضية مارست كرة اليد تحت العلم الفرنسي، بقدر ما يتذكر جهودها في تربية ابنها ليكون موهبة مرموقة في كرة القدم. ولما توالت مشاكل كريستيانو رونالدو مع فريقه الإنجليزي، ثم مع مدرب منتخب بلاده، شعرت بنوع من التعاطف مع بكاء النجم، فخيبة الأمل شعور مرير، والعرب عموما يتأثرون بألم الكبار فيرددون: "ارحموا عزيز قوم ذل".

في العادة يكتفي المشجعون بنوع واحد ومستمر من المشاعر الأحادية، يصل إلى درجة التنمر بالفريق المنافس، وتبرير كل شيء للفريق الذي نناصره، لهذا يصبح لدينا حزب ريال مدريد وحزب برشلونة.. حزب بيليه وحزب مارادونا، حزب ميسي وحزب كريستيانو.. إلخ، بينما التفكير الحر يفضي إلى مشاعر أكثر مرونة وأكثر اتساعا، بحيث يمكن للفرد أن يتنقل بين الإعجاب والتعاطف والنقد لفريقه وللفرق المتنافسة، وكذلك تجاه لاعبين يضعهم الإعلام في مبارزة دائمة لضمان تسويق الأدرنالين وجذب الجمهور للعبة والسلعة، فنحن لا نعبد آلهة، بل نقيّم أداء الفريق واللاعبين، نبتغي المتعة أكثر مما نسعى على الحرب..

لم أشجع رونالدو نكاية في ميسي، ولم أتخلص من إعجابي بأدائهم الرائع أو نقدي لبعض تصرفاتهم وألعابهم داخل الملعب وخارجه، وبعد سنوات من التعصب في عمر المراهقة والشباب دربت نفسي على حالة الاعتدال في التشجيع وفي النقد، ولما تابعت اختلال كفة التعليق والتغطيات الإعلامية لصالح ميسي بعد خروج البرتغال. كنت أعلم أن الفرصة سانحة لمزيد من الاختلال بعد انكسار ألتراس كريستيانو، فرونالدو يقترب من الأربعين، وبينما كان يسعى لنهاية سعيدة يختم بها مشواره بفوز مونديالي، فجأة يلقى مصير "الملك لير" وتمطر عليه السماء تحت العاصفة، وهذه حالة تثير التعاطف.
كلها أحلام مشروعة، لكن المخيف هو الاحتكار والانحياز المبالغ فيه والتضخيم الذي يشوه كل شيء ويختصر العالم والحدث في مساحة أضيق بكثير من الحقيقة، وهو اختصار يظلم الفريق (أي فريق) لصالح الفرد،

وفي المقابل ميسي يريد أن يحرز هدفا طال الاشتياق إليه بتكليل مسيرته بالفوز بكأس العالم، وهذه كلها أحلام مشروعة، لكن المخيف هو الاحتكار والانحياز المبالغ فيه والتضخيم الذي يشوه كل شيء ويختصر العالم والحدث في مساحة أضيق بكثير من الحقيقة، وهو اختصار يظلم الفريق (أي فريق) لصالح الفرد، ويظلم الجنود لصالح القائد، ويجعل من الأرجنتين كلها مثلا "فريق ميسي"، وهو أمر معيب في لعبة جماعية ينبغي أن نحترم فيها جهود كل مشارك في الملعب أو خارجه. وهذه الروح المرنة في التعامل تؤشر لنا على درجة الديمقراطية التي تخدمها أو تفسدها مشاعر التشجيع الرياضي، بل وجوهر الرياضة نفسها، باعتبارها ارتقاء بالبدن إلى حالة فنية وأخلاقية راقية، حتى لا نرتد إلى سلوك العبيد في حلبات المصارعة الرومانية (اقتل خصمك لأنه سيقتلك).

(أبو تريكة)

السؤال عن بطل العالم في مونديال 2022 يحيرني، كما يحيرني العالم نفسه، فالنتيجة التي سيدونها التاريخ ويسوقها الإعلام هي "الأرجنتين"، وهذه نتيجة صحيحة احتكاما لقواعد فيفا وحسابات الأرقام، لكن الفائزين أكثر بكثير من هذه النتيجة الرسمية: المغرب فاز على مستوى المشاركة المميزة مقارنة بظروفه وتاريخه، والسعودية فازت بفوزها التاريخي على الأرجنتين، واليابان فازت بتفوقها على الألمان والإطاحة بهم، وقطر فازت بالتنظيم والانتصار للثقافة النوعية لكل منطقة بعيدا عن هيمنة القيم الأوروبية على العالم، كما تمثل في معركة "قوس قزح"..

والقصد أن هناك عشرات ومئات وآلاف وملايين الفائزين في كأس العالم من قطر والأرجنتين إلى أصغر مراهق استمتع بمشاهدة المباريات على مقهى صغير في قرية نائية مقابل دفع ثمن مشروب مبالغ فيه. وفي المقال المقبل سأكتب عن الانتصار الملفت الذي حققه اللاعب المصري محمد أبو تريكة في كأس العالم 2022.

فإلى لقاء مع أبو تريكة وفوزه الكبير   

[email protected]
التعليقات (3)
عربى21
الجمعة، 23-12-2022 01:35 م
لأ انا عايز عربية و مجد زائل لما كانوا يسمون فى الماضى بالعرب
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 20-12-2022 05:03 م
*** تأكيداُ لرؤية الكاتب بقوله: "لا يعجبني هيمنة عرض الرجل الواحد، والفارق كبير عندي بين النجم والبطل، فالنجم يلمع تحت الأضواء، ويقبل التوظيف في دولة البروباجندا"، فإن مبادئ الحركة الرياضية الأوليمبية الحديثة منذ 1896، قد قامت على تعظيم قيمة المشاركة في المباريات الرياضية فوق قيمة الفوز على الخصم أو المنافس، مع التركيز على كون التنافس الرياضي قائم على الإنجازات الإنسانية والممارسات الأخلاقية، أكثر من اعتبارها مجالاُ للاستعلاء الوطني والقومي، وقد حظرت الدورات الأوليمبية لعقود طويلة حتى مطلع سبعينات القرن العشرين أن تكون الرياضة مجالاُ للتكسب المادي، كاستغلال الرياضيين في الدعاية والإعلان، أي تعظيم قيمة الهواية فوق قيم الاحتراف، ولذلك فقد منع أبطال كرة القدم المحترفين، وفي رياضات كثيرة أخرى تقوم على الجوائز المادية، من المشاركة في البطولات الأوليمبية، كمصارعة وملاكمة المحترفين، ودوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين، وبطولات السباحة الطويلة ذات الجوائز، التي كان عبد اللطيف أبو هيف أحد أبطالها المشاهير، وأبطال التنس المحترفين، وكان اسماعيل الشافعي يتكسب بالمشاركة فيها، ولكن الأمور تغيرت، مع سطوة شركات الدعاية والإعلان والإعلام، وتسلل الاحتراف بالتدريج إلى الدورات الأوليمبية، حتى تم الاعتراف به، كما باتت البطولات الأوليمبية مجال للتفاخر والصراعات القومية بين دول مستبدة شرقية وغربية، وقد ابتدعت ذلك التحول دول الكتلة السوفيتية الشيوعية مع دول حلف وارسو السابقة، وابتدع مدربوها استخدام منشطات الهرمونات للاعبيهم، ونتج عن ذلك أضرار صحية فادحة عليهم في مقبل أيامهم، ولكن يبقى أن المحترفين في مجال الرياضة اليوم أقل بكثير من 1%، وتبقى مجالات الرياضة مفتوحة للملايين من الهواة، بعيداً عن هيمنة فكر النجومية، باعتبارها أنشطة اجتماعية وترويحية وصحية تمارس لفوائدها وليس لمكاسبها المادية.
حمدى مرجان
الثلاثاء، 20-12-2022 01:32 م
ركلات حرة في الملعب السياسي دكتور / جمال عبد الستار // رغم أني أمسكت عن الكتابة أو التعليق على أي شيء يخص مونديال كأس العالم لأسباب خاصة، فإن نهايته حفزتني أن أكتب خواطري، ومن غير المنطقي أن نكون بمعزل عن واقعنا، توافقنا معه أو اختلفنا، وإن كانت تلك الخواطر حاضرة في كل مونديال إلا أنها في حالتنا هذه أكثر وضوحا وأقرب فهما. وحقيقة، لقد تعلمت من هذا المونديال الكثير مما نحن بحاجة إليه على كل المستويات، وأسوق بعضا مما يتيسر منه: في تواصل مع كثير من الأجناس والأعراق والبيئات وجدت قاسما مشتركا يجمعهم، فأكثرهم -رغم تنوع ثقافاتهم واهتماماتهم ومشاكلهم- يُبدون قدرا مشتركا من الاهتمام والمتابعة لكأس العالم، فأدركت أن غياب القضايا الكلية أحد أبرز أساب تفرّق أمتنا، وأن من وسائل النهوض إيجاد قضية جامعة تلتف الشعوب حولها وتتفاعل مع تداعياتها. وجدت أن التحديات والمعوقات ليست شرّا كلها، ولكن يمكن أن تكون دافعا للنجاح، وقوة معينة على النهوض، فقد وُضعت أمام دولة قطر من العقبات والتحديات ما لم يخطر ببال أحد، ولكنها تعالت عليها جميعا، وانتصرت عليها كلها انتصارا كاسحا، فكان للنجاح طعم آخر ومذاق مختلف. تعلمت أن التأخر الحضاري ليس قدرنا المحتوم، بل يمكننا أن نكون قدر النجاح والتفوق، بالاجتهاد والبذل، فنتحول من التبعية إلى الريادة، ومن عقدة النقص إلى عزة التميز. تعلمت أن العالم يحترم من يتمسك بهويته ويقدّره لاعتزازه بها حتى وإن خالفه الرأي، ويحتقر من يتنازل عن هويته وإن أبدى له صورا زائفة من الإعجاب. رأيت أن جمهور الأمة متعطش إلى نصر مهما كان صغيرا، ومتطلع إلى نجاح أيّا كان صاحبه، وأن الانتماء إلى الأمة بهويتها ما زال في النفوس حاضرا زاهيا متالقا رغم كل محاولات التفتيت والتفريق. حصاد لجهد طويل تعلمت ان المباراة حصاد لجهد طويل، ونتيجة لتدريبات شاقة، وخطط علمية دقيقة، ومعرفة عميقة بطبيعة المنافس، وإحاطة بمراكز قوته ومواطن ضعفه، وكيفية هزيمته، فلا مفاجأة بإمكاناته ولا صدمة من قدراته، فقد أعدوا لكل ميدان رجاله، ولكل موقع جنوده. تعلمت من المونديال أن التخصص من أبرز معالم النجاح، فالمدرب لا ينزل إلى ساحة الملعب بغية إحراز هدف، ولا الحارس ينشغل بالتدريب، ولا الفريق ينشغل بأعمال ومهام خارج ساحة الملعب، ولا فوز بدون قائد مُلهم، ولا انتصار بدون مهاجم أريب. تعلمت أن الفريق المدافع لن يفوز دون أن يكون عنده خط هجوم، ولا نجاح لهما بدون حارس أمين، وكلاهما في حاجة ماسّة إلى خط وسط يكون حصنا للأمان، ومصدرا للدعم، وحماية للتماسك والاتزان. تعلمت من الجماهير كيف يكون صدق الانتماء، فمن يشجع فريقا تراه محيطا بنجومه وتاريخهم، متابعا لمسيرتهم، يعرف نقاط قوة فريقه، ويعتز بزيه، ويرفع شعاره، في الوقت الذي رأيت فيه حشودا من المنتسبين إلى الإسلام يفرّطون في فرائضه، ويجهلون سننه، ولا يعلمون شيئا عن تاريخ رواده من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان، ولا عن العلماء والفقهاء والمصلحين، بل إنهم يتجاهلون ما يقع عليهم من ظلم، وما يتعرضون له من طغيان واستبداد! الهزيمة ليست نهاية العالم تعلمت أن التنافس لن يصلح بدون جمهور، فهو من يرفع الهمم، ويقوي الأداء، وينفخ في فريقه روحا وثابة يتخطى بها العقبات، ويحقق بها البطولات، ففي الهزيمة يدعم فريقه للتعويض ويقاوم اليأس، وفي النصر يجعل للفوز قيمه بفرحته الغامرة وسعادته البالغة. تعلمت كذلك أن الهزيمة لا تعني نهاية العالم فتلك طبيعة الصراع، ولكن على المهزوم أن يدرس أسباب إخفاقه دون تدليس، وأن يعترف بالأخطاء دون تبرير، وأن يُعِد العدّة للقاءات قادمة بأدوات ومنهجية وطرق مختلفة، فمن يتعلم من هزيمة اليوم يمكن أن يكون الفائز غدا. تعلمت أن نجاح المدرب يُقاس بإنجازه وليس باسمه أو تاريخه أو سابق تضحياته، فإذا خسر الفريق فإنه سرعان ما يعتذر للمدرب أو ينهي عقده بصرف النظر عن اسمه ومكانته، وما رأيت أحدا يسمي الفشل نصرا غيرنا، ويأنف أن يعترف بمسؤوليته عن خسارة صراع، أو سوء إدارة فريق، بل إننا رغم فشل المدربين نزداد تمسكا بهم، ولو أدى الأمر إلى تغيير اللاعبين والنادي والجمهور!! بل يمكن أن نستغني عن الأشبال المميزين والنجوم الواعدين مِن أجل مَن لم يحرزوا هدفا إلا في أنفسهم، ولم يشنوا هجوما كاسحا إلا على من ينتقدهم، ولم يكونوا أسودا مغاوير إلا على أهلهم!! أخيرا أقول: لا قيمة للأهداف بعد صافرة النهاية، وأخطاء الخصم لا تهب لك الفوز ما لم تكن مستعدا، والوقت ليس جزءا من العلاج في كل الأحوال، بل ربما يكون سببا لتفاقم الهزائم، والاغترار بالتاريخ الناصع أو النيات الصادقة لا يحقق بطولة، واللعب بالجرحى والمصابين جريمة لا تُغتفر، وعدم إدراك طبيعة الخصم بلاهة.