في الأسبوع الماضي، قرأت الكثير عن
الشاعر محمود حسين مفلح قبل
الكتابة عنه، وتوقفتُ عند قوله عن الشعراء المؤدلجين الذين يتلقون الرعاية من
المؤسسات الرسمية، بينما لا يحظى الشعراء المستقلون بأية رعاية، وهذا ما قلناه
خلال مائة مقال في هذه السلسلة. وممّن لم يحظَ بهذه الرعاية أخوه الشاعر أحمد
مفلح، بل لم يُذكر اسمه في موسوعات شعراء
فلسطين ولا في موسوعات الأعلام، ولا في
الموسوعات المحَدَّثة على الشبكة العنكبوتية.
كاتبٌ واحدٌ لم ينسَ أن يكتب عنه، وهو الكاتب خليل الصمادي في كتابه
"معجم شعراء فلسطين في العصر الحديث"، فهو كاتب مستقل عرفه وجهاً لوجه
في مخيم اليرموك قبل نكبته. جاء هذا الاستذكار للشاعر أحمد مفلح بعد تجهيل تعرّضت له سيرته الذاتية، رغم تأثيره
بتلاميذ فلسطين من خلال المناهج.
يكفي شاعرنا شهرة عميقة بدون فقاعات إعلامية، أن قصيدته
"بيسان" درسها كل طلاب فلسطين في منهج اللغة العربية للصف السادس
الابتدائي، وهي قصيدة يُعبِّر فيها عن شوقه لمدينة بيسان بطريقة مختلفة، ويجعل من
بيسان شخصاً يخاطبه، ويطمئن على حاله، ويستفسر عن الأماكن التي يشتاق إليها، وهو
ما نسمّيه في النقد "أَنسَنة المدينة".
ويبدو حلم العودة عند شاعرنا تجسّد على شكل شوق إلى بيسان وذكرياتها،
فهو يتساءل عن عينيها، وعن ضفتي بحيرة طبرية، وعن الزنابق وشجرة التين وظلال
الزيزفون. فيقول:
أما زالَ في عينيكِ صيفٌ وأنجمُ .. وفي صدرِك الريّانِ مِسكٌ وعَندمُ؟
أما زالَ بين الضّفّتينِ زنابقٌ .. تُهدهِدُ شوقَ الغورِ والغورُ ينسمُ
خُذيني لَقَد أشعلْتُ كلَّ مَراكبي .. إلى غابةِ الدِّفْلَى أضيعُ وأرسمُ
وأنقشُ أشعاري على خصرِ تينةٍ .. وتحتَ ظِلالِ الزَّيزَفونِ أُخَيّمُ
قال عنه أخوه الشاعر محمود حسين مفلح في العام الماضي:
لم ينل حظه من التعريف، ليس لأنه أخي، بل لأنه صوت شعري جدير بأن
يعرفه القراء، بكل بساطة كان زاهداً في الأضواء وزاهداً في النشر. كان مخلصاً
للقصيدة. لم ينتسب لأي فصيل فلسطيني رغم أن كثيراً من الفصائل عرضت عليه ذلك، وبقي
على مسافة واحدة من كل الفصائل، حتى يبقى بعيداً عن ضغوطها وتبعيتها.
سيرته؟
ولد الشاعر أحمد حسين مفلح في بلدة سمخ عام 1940. وهو أكبر من شقيقه
محمود بثلاث سنوات. عاش طفولته على ضفاف بحيرة طبريا، وبدأ الدراسة في فلسطين،
لكنه غادرها في النكبة عام 1948 إلى درعا واستقرّ مع أهله في مخيم درعا.
تلقى علومه في مدارس محافظة درعا في سورية، وتابع تحصيله العلمي في
جامعة دمشق، حيث تسجل في كلية الطب البشري، ثم ما لبث أن تركها وانتقل إلى كلية
الآداب، التي حصل منها على الإجازة في اللغة العربية، وعمل في تدريس مادة اللغة
العربية في سورية، ثم عمل سنتين في جدة بالمملكة العربية السعودية.
بدأ رحلته مع الشعر في الخامسة عشرة من عمره، إذ ألقى بيتاً شعرياً
واحداً حينها، ثم بدأ بكتابة الشعر والتدرج فيه وهو في الصف التاسع. وانطلقت
قريحته الشعرية وقلمه السيال مع انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965، وشارك في
العديد من الفعاليات الأدبية مع كبار الشعراء الفلسطينيين والسوريين، لنشر الوعي
والشعر الفلسطيني في مجتمعهم وأجيالهم الطالعة.
نشر شعره متأخراً في الصحف والمجلات، فنال الجائزة الأولى لمسابقة
اتحاد الكتاب العرب في مجلة الموقف الأدبي عن قصيدته "دمي زمرة برتقال"،
كما فازت مجموعته الشعرية الأولى "قناديل طبريا"، بالجائزة الثانية
للشعر الفلسطيني، جامعة الدول العربية قسم الثقافة والعلوم.
خرج أحمد مفلح مع عائلته من مخيم اليرموك إثر الأحداث الجسام هناك،
تاركاً منزله ومكتبته (افتتح مكتبة للكتب والقرطاسية في المخيم بعد تقاعده)،
واستقرّ في قُدسَيّا بضاحية دمشق. إلى أن توفاه الله في نيسان من عام 2014.
من مؤلفاته:
ـ "قناديل طبريا"، شعر، دمشق 1977.
ـ "عراف الشريعة والضفاف"، شعر،
اتّحاد الكتّاب العرب دمشق 1978.
ـ "حبيبتي بيسان"، شعر، دمشق 1982.
ـ "اغتيال القمر الفلسطيني"، شعر،
السعودية، نادي جدة الأدبي 1983.
ـ "ياعيون الجليل"، شعر، دمشق، 2009.
ـ "الروائع"، نثر، دمشق 1994.
ـ "الفرائد"، نثر، دمشق 2009.
نماذج من شعره
"العابرون" كتبها عام 1980 يرثي
فيها أربعة أبطال عشقوا فلسطين وماتوا من أجلها.
أحبائي كَعودِ النِّدّ والريحانِ قد عبروا
حدود الدوم والعرعرْ
أنا ما زلت أذكرهم
ثلاثتهم بلون القمح
رابعهم فتىً أسمر
كنور الشمس طلعته
وجذع النخل قامته
وأما ثغرُه البسّام
يحكي الصبح إن أسفر
قصيدة "دمي زمرة برتقال"
الريحُ تحفرُ جبهتي
قالوا: ابتدئ
النار تسفحُ دمعتي
قالوا: ابتدئ
من أين أبتدئ.. الخناجرُ مشرعاتٌ
بين حَنجرتي وقلبي
أصطكُّ والنجم المذنَّبُ حولَ جمجمتي
ابتدئ
تزدادُ سرعتُه ويقذفني
ابتدئ
أتسلَّقُ الطوفانَ والطوفانُ يشربُني
استدرْ للخلفِ لا للقصفِ فالطوفانُ منا
واستدرتُ فجرَّني الطوفان
واخترقَ المذنَّبُ هامَتي
عجباً يريدونَ ابتدائي
أَم يريدونَ انتهائي
لا تلعنوا برقَ الشمالِ
بل العنوا غدرَ الرجالِ
حين استدارَ النهرُ وابتدأتْ مُطاعَنَةُ الظهور
كلُّ الكواكبِ أعلنتْ أن المدينةَ عاهِرة
إلا زبانيةُ المدينةِ برَّؤوها
غاصَتْ ملطخةَ الحياءْ
ماذا تبقَّى للسماءْ
النِّسر يُصلبُ ثم يطلبُ ريشُهُ
ليصيرَ كالحملِ الوديعْ
مِن الجناحِ إلى الذنَبْ
ماذا تبقَّى للشموخِ وللذُّرا؟
تبَّتْ يداكَ أبا لهبْ
عَلَّقتُ قِنديلي النَّقيِّ وفيهِ زيتٌ من عيوني
لم يقنعوا مالوا عليَّ
فصادروهُ وأَبعدوني
لَملمتُ أجزائي اصطككتُ
غدوتُ جمجمةً مضية
فتسلَّلَ الحراسُ بين جنازَتي وعباءَتي
رفعوا شعاراتِ التُّهَمْ
كل المدائنِ أغلقَتْ ابوابَها
فعلى جوازي برتقالة
وعلى قميصي خيطُ دمْ
خلُّوا قميصي لستُ بعثمانَ بن عفان
أنا برقُ الجليلْ
هذا دمي، هذا لجرحي ينتمي، وهو الدليلْ
إن تُسفحوهُ منَ الوريدِ إلى الوريد
وَتصلبوهُ على الرمالْ
سيظلُّ حتى في خلايا الرملِ
زمرةَ برتقالْ
*كاتب وشاعر فلسطيني