في الأصل، يُفترض أن تكون المنظومات الأخلاقية التي يضعها البشر وسيلة لضبط السلوك نحو تقييد العدوانية وتدعيم سلام المجتمعات. ولكن، مثل كل شيء آخر تقريبًا، يتم تسليع الأخلاق وإخضاعها لشروط المُلكية. وفي الغالب، تعتقد كل ثقافة بأنها تمتلك أفضل نسخة من الأخلاق الكونية الصالحة وحدها لبيعها على الآخرين وإقناعهم باستهلاكها.
وبطبيعة الحال، تستخدم الثقافات السائدة تصوراتها «الأخلاقية» كجزء من أدوات الهيمنة، وتضعها في علاقة جدلية مع المكونات الأخرى للقوة، مثل الخطاب، والسيطرة العسكرية، وترتيب الأولويات والمصالح. وكان التجلي المفزع لهذه الاتجاهات – وما يزال- هو ما تدعى «الإمبريالية الأخلاقية». وهي ممارسة ينطوي على فرض مجموعة من القيم الأخلاقية للثقافة الغالبية على ثقافة/ ثقافات لا تتقاسم معها هذه القيم، سواء كان ذلك باستخدام القوة المباشرة أو أدوات النقد الثقافي.
بطبيعة الحال، تتجاهل هذه الجهود حقيقة معيارية الأخلاق والأحكام النسبية للصواب والخطأ، ولا يعود يحكم إطلاق الأحكام الأخلاقية منطق ثابت، وإنما نوع من التكييف المنطقي بدعم تنظير يضع النتائج أولًا ويصوغ لها المقدمات لتكوين قضية. وكما يحدث، توضع القوة المادية في أساس المقدمات كضرورة لفرض «الحقائق»، لتجسيد مقولة «الحق هو القوة».
وفق هذه الصيغة، تم تبرير حملة الاستعمار الأوروبي للشعوب الأضعف باعتبارها عملًا أخلاقيًا عاليًا صرفًا. وقدمه منظّرو الاستعمار على أنه فعل تنويري تمديني ضروري باعتباره التزامًا أخلاقيًا على عاتق المتنوّر المثالي الغربي تجاه الهمج الجاهلين الضالين. وفي هذه العملية «التنويرية»، يكون استخدام القوة العسكرية والغزو والإخضاع ضرورة حتمية لجبل الحضارة إلى الذين لا يعرفون مصلحتهم إلى حد مقاومة «مخلّصيهم» الأوروبيين، الذين يقومون بهذه المهمة بألم وكواجب ثقيل.
وحتى الآن، والغد وما لا نهاية، ما يزال الأقوياء يقومون بنشر «قيم العدالة، والسلام، والديمقراطية، والحرية» في العالم بقوة السلاح. لذلك كان غزو العراق وأفغانستان وكافة التدخلات الغربية العسكرية والمؤامراتية لـ»تغيير النظام» في دول مختلفة في العالم، لغاية تزويد شعوبها بجنة «القيم والحريات الغربية». ولذلك تدعم الولايات المتحدة ومعسكرها استعمار الكيان الصهيوني لفلسطين، باعتبار ذلك التزامًا بحق اليهود المساكين الذين استهدفتهم النازية، وباعتبارهم جالبي حضارة وحرية وديمقراطية لأرض، مرة فارغة ومرة أهلها بدائيون غير متحضرين، حسب السياق. ولذلك تجري المصادقة على قتل
الفلسطينيين والعراقيين والسوريين وكل الآخرين الذين يُعتبرون «النقيض الأخلاقي والحضاري الحتمي» للحضارة الغربية «المثالية».
حسب تصريحات أخيرة لمسؤولة أوروبية، قُتل من الأوكران في الحرب حتى الآن نحو 20.000 مدني و100.000 عسكري. ومثل كل شيء آخر، يعتبر الغرب تدخله في أوكرانيا، من تدبير الانقلاب الحكومة الموالية لروسيا إلى التحريض والدعم العسكري والمالي الهائل، عملاً أخلاقياً من الدرجة الأولى، عنوانه «محاربة الاستبداد الروسي – والصيني، بالارتباط». وفي المقابل، يقرأ مراقبون السلوك الغربي في الحرب الأوكرانية بأنه عمل غير أخلاقي بالمطلق، باعتباره أنه تجنيد للأوكران ليحاربوا بالوكالة عن مصالح أميركا والغرب «حتى آخر أوكراني» في صراع على الهيمنة العالمية. وتعرض روسيا تدخلها في أوكرانيا كفعل أخلاقي، باعتباره دفاعًا وجوديًا عن النفس ووقوفًا في وجه تمدد نفوذ الإمبريالية الغربية.
عند أحد المستويات، تدخل مراقبة مواطني الدول ومناهضة احتجاجاتهم، أو قمع آرائهم، تحت عسكرة الأخلاق. إن هؤلاء المواطنين حسب السلطات هم، بالتعريف، «يعتدون على السلم الأهلي»، «مخربون»، إرهابيون»، «مشاغبون ومثيرو فوضى». وفي بعض الأحيان، «معتدون على الشعور العام بالمس بالعقائد الصحيحة والمبادئ». إنهم، باختصار، غير أخلاقيين. ولا بأس لذلك في ملاحقتهم واحتجازهم وإسكاتهم. كل هذا في حين اعتبارات الاحتجاج يمكن بسهولة أن تُعرّف على أنها أخلاقية، مثل الاعتراض على الفساد، أو اللامساواة، أو الاستغلال، أو عدم تحكيم القانون، أو مصادرة الحريات… إلخ. وهي كلها سلوكيات غير أخلاقية في الأساس.
إذا كان في «
تسليح الأخلاق» و»الإمبريالية الأخلاقية» شيء، فهو التأكيد على أن الإنسان كائن معادٍ للذات بغرابة، قادر على اجتراح الشر من أكثر الغايات خيرية. وفي سبيل ذلك جعل من أكثر المبادئ الأخلاقية عالمية وأساسية موضوعًا للتأويل والاستخدام كمسوغات للعدوان والاستهداف، وأسبابًا للصراع وتقويض سلام البشرية. وإلى حد كبير، أصبح الالتزام بالأخلاق السلمية، التي تضمن عدم الإضرار بأحد في الحقيقة، وصفة للضعف والدونية وتشجيع عدوانية الآخرين. وأصبحت العدوانية وتعزيز أدوات ممارستها شروطاً للـ»الحرية» و»شراء السلام –بالقوة الجبرية»!
(الغد الأردنية)