كتاب عربي 21

حكام وجواسيس (الخيانة كوجهة نظر -1)

جمال الجمل
تدعي جميع الأطرف الوطنية وتتهم الآخرين بالخيانة- الأناضول
تدعي جميع الأطرف الوطنية وتتهم الآخرين بالخيانة- الأناضول
(1)

ذات يوم حزين احتدم النقاش بين عدد من المناضلين الفلسطينيين بسبب الخلاف بين "السياسة" و"البندقية"، ولما تمسك كل طرف بوجهة نظره علق أحد الفدائيين متشائماً: "قريبا سيأتي اليوم الذي تصبح فيه الخيانة وجهة نظر".

لم يتذكر المناضل (الذي صار شهيدا فيما بعد) أن ذلك اليوم الذي حذر منه، قديم قديم قديم، كل الحكاية أنه يتوارى بعض الأوقات ثم يعود ليفرض نفسه بمبررات "المصلحة الوطنية".

لهذا لم يتوقف استخدام السياسيين لحديث الخيانة الوطنية، وفي الغالب يتم تبادل الاتهامات بين الأطراف المتعارضة، بحيث يرى كل طرف أن الطرف الآخر هو "الخائن".

لم يتوقف استخدام السياسيين لحديث الخيانة الوطنية، وفي الغالب يتم تبادل الاتهامات بين الأطراف المتعارضة، بحيث يرى كل طرف أن الطرف الآخر هو "الخائن"
وفي الحالة المصرية تظهر الخيانة السياسية كعامل من أبرز العوامل في تأسيس الدولة وسقوطها، ففي العصور القديمة حكايات عن خونة تعاونوا مع جيوش الأعداء، وبعضهم عاش في المنفى تحت رعاية أعداء الدولة، وفي العصور الوسيطة نعرف الكثير عن خيانة تغري بردي الغزالي وخير بك، كما عرفنا قصة تعاون شيوخ الأزهر ونقيب الأشراف والتجار مع الغازي نابليون، وصولا إلى خيانة عرابي من العسكريين ومن السياسيين والصحفيين أيضا، بل ومن سراي الحكم، حيث تحالف الحاكم علنا مع الإنجليز ومهد لهم الطريق لاحتلال البلاد، مثله مثل الضباط الخونة وفي مقدمتهم عبد الرحمن حسن وعلي يوسف المعروف بلقب "خنفس باشا".

وفي السنوات الأخيرة من حكم السادات لم تكن "الخيانة" وجهة نظر وفقط، لكنها حملت اسم "السلام"، واستحق "الخائن" الذي تعاون مع الأعداء "نصف جائزة نوبل"، حيث حصل العدو على النصف الثاني، وكأنها صيغة "زواج" أنجب جيلا جريئا من الخونة المتصالحين مع خياناتهم، باعتبارها "خيانة شريفة" لصالح الوطن والمواطنين، وهو الطريق الذي مضى فيه مبارك بخجل وبطء، ويهرول فيه السيسي بشوق واندفاع..

(2)

مقال اليوم لا يوجه تهمة الخيانة الوطنية لفرد بعينه، لأن توجيه الاتهامات صار حكرا على الحكام، فمن السهل عليهم اتهام كل من يخالفهم بالخيانة، بينما نحن لا نستطيع محاكمة أي حاكم أو مسؤول، ولو كانت خيانته تملأ الشاشات وتتصدر الصحف، لأنهم ببساطة يسمون خيانتهم "مصلحة وطنية عليا"..

توجيه الاتهامات صار حكرا على الحكام، فمن السهل عليهم اتهام كل من يخالفهم بالخيانة، بينما نحن لا نستطيع محاكمة أي حاكم أو مسؤول، ولو كانت خيانته تملأ الشاشات وتتصدر الصحف، لأنهم ببساطة يسمون خيانتهم "مصلحة وطنية عليا"
لذلك يتجاهل المقال توجيه تهمة الخيانة لأي شخص، ويركز في طرح التساؤلات وتفكيك القضية كمحاولة للوصول إلى وجهة نظر عادلة في تعريف الخيانة ومعرفة الخائنين.

(3)
شغلتني القصص الخلفية العميقة للحرب الأوكرانية: قصص المرتزقة والمقاتلين الذين تنكروا لجنسيات بلادهم وممارسة القتال كـ"بيزنس"، أو باسم "السلام" و"العدالة"، أو لصالح دول وأجهزة استخبارات، وقصص الصحفيين ومستودعات التفكير التي تعمل لصالح طرف يؤجرها كشركة دعاية بغض النظر عن شعارات الوطنية والانتماءات الأيديولوجية، وفي الصف نفسه ظهر نواب البرلمانات والسياسيين وأباطرة المال والتجارة..

وحتى لا تتفرع القضية وتتوه في دهاليز الحرب الخفية، سنمسك بطرف الخيط من ألمانيا، التي أعلنت عن إحباط انقلاب دبرته روسيا عن طريق دعم حركة سياسية داخل ألمانيا أطلقت على نفسها اسم "مواطنو الإمبراطورية"، في إشارة إلى دولة الرايخ الألماني قبل الحرب العالمية الثانية. واعتقلت السلطات الألمانية أميرا سابقا يدعى "هاينريش الثالث عشر"، بتهمة تزعم الانقلاب اليميني المدعوم من روسيا، لإعادة ألمانيا إلى سابق عهدها كإمبراطورية مستقلة عن التبعية لأمريكا. وكشفت السلطات الألمانية عن تورط رجال مخابرات وعسكريين روس يعيشون في ألمانيا بهويات مزورة منذ سنوات طويلة، وذلك بعد أن شاركوا في دعم تظاهرات وفعاليات علنية لحركة "شعب الرايخ" في عدة مدن..

(4)
أحداث شبيهة بالانقلاب الألماني حدثت في فرنسا على خلفية الحرب الأوكرانية أيضا، وفي بريطانيا حدثت تغييرات سريعة لمجس الوزراء، وفي أمريكا تتواصل قضايا شائكة ومقلقة عن الانقلاب ضد الديمقراطية، بحيث يبدو الرئيس السابق في موقف يشبه موقف الأمير هاينريش من حيث الجمع بين بيزنس العقارات، والرغبة في استعادة الحكم الضائع..

أرى في ذلك مؤشرا لنوع من القلق والتقلبات السياسية التي تصاحب فترات الانتقال، وتنذر بحروب كبرى وتفكك دول وفتح الطريق للبحث عن أسس لعالم جديد..

(5)
اسم هاينريش يذكرني بلغز تاريخي غامض لم يستطع أحد حله، برغم كثير من الكتب التي بحثت فيه. واللغز يرتبط برجل حمل اسم "هاينريش ألبرتال"، تعرفت على قصته من خلال رسائله التي أرسلها إلى خديوي مصر الأخير عباس حلمي الثاني، وقد اقتنيت صورة من الرسائل المحفوظة ضمن مقتنيات إحدى الجامعات البريطانية، ويعرض فيها الرجل العسكري الغامض تقديم خدماته للحاكم المصري الذي كان مهتما بالصراع في البلقان قبل أن يعزله البريطانيون من الحكم في بدايات الحرب العالمية الأولى. واهتمام الحاكم المصري بالبلقان لم يكن حنينا لأصول عائلته، ولا تعاطفا إنسانيا مع شعب يعاني، لكن لوجود ممتلكات ومصالح مالية موروثة في تلك البلدان

هاينريش ألبرتال لم يكن العسكري الأجنبي الوحيد الذي راسل حاكم مصر لتقديم خدماته، كان هناك العشرات من جيش الإمبراطورية النمساوية المجرية قبل تفككها، وبينهم "كارل هرون" الذي عرض على عباس تمويل صحيفة تخدم توجهاته السياسية. وكان عباس مولعا بتجنيد الجواسيس وبناء شبكات سرية وتنظيمات عدة في اتجاهات مختلفة، سواء عندما كان في الحكم وأسس جمعية سرية مع لطفي السيد ومصطفى كامل وآخرين، وكذلك بعد عزله عندما تورط في أكبر قضية تجسس كشفتها فرنسا وانتهت بإعدام صديق الخديوي المدعو "بولو باشا"؛ بتهمة الخيانة الوطنية والعمل لصالح الألمان!

(6)
ألمانيا اليوم تقف في موقف فرنسا أيام الحرب الأولى، ولا بد من معرفة القصة الشيّقة باختصار لاستخلاص عبرة، أو فائدة ما من التاريخ الذي يتكرر بمفارقات مدهشة، والمهم أنه يكشف لنا عن خبايا يتم طمسها عمدا حتى لا نعرف من التاريخ إلا ما يريده الحكام:

بعد اندلاع المعارك في الحرب العالمية الأولى طلب نائب برلماني في الجمعية الوطنية الفرنسية ويدعى "بول بينازيه"؛ مقابلة الرئيس ريمون بونكاريه لأمر خطير يتعلق بشبكة تجسس تسعى لسيطرة برلين على الصحف الفرنسية وتوجيه الرأي العام للمطالبة بحياد فرنسا وعدم خوضها الحرب ضد ألمانيا..

وكشف بينازيه أن سيدة تدعى "عزيزة دي روشبيرون" ألحّت في طلب مقابلته، ثم أخبرته بمعلومات تفصيلية عن شبكة التجسس وأسماء السياسيين والشخصيات المتورطة مع قائد الشبكة، وهو رجل أعمال فرنسي يدعى "بولو باشا" صديق حاكم مصر السابق..
ألمانيا اليوم تقف في موقف فرنسا أيام الحرب الأولى، ولا بد من معرفة القصة الشيّقة باختصار لاستخلاص عبرة، أو فائدة ما من التاريخ الذي يتكرر بمفارقات مدهشة، والمهم أنه يكشف لنا عن خبايا يتم طمسها عمدا حتى لا نعرف من التاريخ إلا ما يريده الحكام

هكذا بدأت المحاكمات في القضية الكبرى التي انتهت بإعدام بولو رميا بالرصاص بتهمة الخيانة، وكان بولو قد دافع عن نفسه بعد النطق بالحكم مؤكدا أنه "ليس خائنا"، وقال: أنا مستعد للموت لكن ليس كخائن.. إنه مجرد بيزنس، وفي مرافعة الاستئناف قال محامي بول: لا تحكموا على بولو باشا بالإعدام لإرضاء الرأي العام، هذا الحكم يتعارض مع العدالة وسوف تندم فرنسا على ذلك في المستقبل!

القصة في عمومها تبدو عادية: حروب وجواسيس ومحاكمات وموت بمختلف الطرق، لكن التفاصيل أخطر من أن نتركها في الظلام، لأنها تكشف ما يتم حجبه عنا. مثلا لا بد أن اسم "عزيزة دي روشبيرون" لفت نظركم بغرابته، فمن تكون؟ ومن أين عرفت بأمر شبكة التجسس؟

(عزيزة)

مدام دي روشبرون، اسمها الحقيقي "ماري هورتينس ريفارد"، كانت طالبة في قسم اللغات الشرقية في السوربون، وبحكم دراستها تعرفت على عدد من الدارسين الأتراك والمصريين، واقتربت من نشاط المصريين في الخارج بعد إرسال الخديوي لمصطفى كامل للدراسة وتأليب الفرنسيين على الإنجليز، وهناك التقى كامل بالصحفية الشهيرة "جولييت آدم" التي تبنته وزارت مصر بصحبته وساهمت في التعريف بالقضية المصرية في فرنسا.

وفي هذه الأجواء تعرفت الآنسة ريفارد على المحامي المصري ورئيس الحزب الوطني بعد ذلك، محمد فريد، وأكدت أثناء المحاكمات أنه تزوجها وأنجبت منه طفلا (لا نعرف عنه أي شيء واضح حتى الآن). ما يهمنا أن "مدام ريفارد" اختارت لنفسها اسما شرقيا مستعارا هو "عزيزة" مع لقب أرستقراطي فرنسي هو "دي روشبيرون"، وزارت مصر بترتيب من محمد فريد وتعرفت على الخديوي وكثير من أفراد النخبة السياسية والصحفية.

وكانت كثيرة الإلحاح في طلب المال بحجة التفرغ للقضية المصرية، لذلك استخدمها الخديوي كجاسوسة لجمع المعلومات مقابل راتب شهري قدره 40 جنيها مصريا، وكان مبلغا كبيرا في ذلك الوقت.

وهكذا صارت عزيزة قريبة من رأس الحكم في مصر بسبب عملها لدى الخديوي، كما كانت قريبة من النخبة السياسية بسبب علاقتها بمحمد فريد، واختلاطها بالطلبة المصريين المبتعثين في باريس، خاصة المهتمين بالنشاط السياسي، وحدث بشأنها لغط وخلافات كثيرة ورد بعضها في لمحات سريعة ضمن مذكرات عدد من الناشطين في تلك الفترة..

(بولو باشا)

بولو هو الوجه المقابل لعزيزة، بينما اختارت اسمها الأول شرقي والثاني فرنسي، احتفظ بولو باسمه الفرنسي وأضاف اللقب الشرقي وتمسك به في المعاملات والتوقيع، وبينما كانت عزيزة ابنة كيميائي فرنسي مرموق وشقيقة مخترع موهوب في مجال الطيران، كان بول ماري محتالا ينصب على النساء، ويتزوج في كل مرة باسم مختلف للتهرب من القضايا والملاحقة، لذلك قال عنه رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو مبررا إعدامه: "إنه من النوع الذي بدأ حياته بخيانة النساء وختمها بخيانة الدول"..

وللقصة بقية.. نواصل في المقال التالي..

[email protected]
التعليقات (3)
Elnashar
الجمعة، 20-01-2023 05:01 م
تحية للكاتب ، أتطلع للمقال القادم وفي السنوات الأخيرة من حكم السادات لم تكن "الخيانة" وجهة نظر وفقط، لكنها حملت اسم "السلام"، واستحق "الخائن" الذي تعاون مع الأعداء "نصف جائزة نوبل"، حيث حصل العدو على النصف الثاني، وكأنها صيغة "زواج" أنجب جيلا جريئا من الخونة المتصالحين مع خياناتهم، باعتبارها "خيانة شريفة" لصالح الوطن والمواطنين، وهو الطريق الذي مضى فيه مبارك بخجل وبطء، ويهرول فيه السيسي بشوق واندفاع..
عبدالباسط
الثلاثاء، 17-01-2023 06:38 ص
حمدي مرجان .. أنت تنتقد الثناء على المهزوم الهالك (جمال عبدالناصر) ومعك كل الحق في ذلك، فقد كان بالفعل أقرب لأن يكون عميلا خائنا من كونه رئيسا وطنيا عروبيا كما كان يزعم! لكن أن تثني على (السادات) نائب عبدالناصر ومحل ثقته، الذي أعطى إسرائيل فوق ما تتمنى، فهذا غير مقبول! نعم ..ربما أتفق معك كونه كان سياسيا بارعاً، حتى مع الاختلاف على سياسته، أما كونه ملهما وعظيما وبارعا فهذا هو "الهراء" بعينه أو لنقل "الهري" كما قل قزم الانقلاب السيسي! فكلا الرجلين ضراط ولكن شهاب الدين أضرط من أخيه! كل العسكر عبارة عن (عصابة) تحكم مصر ومستعدون لفعل أي شيء من أجل الاستمرار في حكم مصر بكل الوسائل بما فيها الخيانة العظمى والتي يعدونها (مصلحة وطنية) و (سياسية حكيمة)! العار كل العار لمن دافع عن هؤلاء العساكر الفشلة الذين أوصلوا البلاد إلى هذا الدرك في الانحطاط.
حمدى مرجان
الإثنين، 09-01-2023 07:12 ص
مصر " عبد الناصر " هزمت الي الابد ، هزمت بحاكمها و قادتها ومفكريها ونخبتها وصحفيها واعلامها وتنمبتها واقتصادها ، وانت مثل بقيتكم مازلتم تقدموا القرابين للصنم و تتلوا علينا صلواته ، مدحا وثناءا في خطاياه ، وقدخا وذما في الرئيس السادات ، فتجعله مع "خنفس باشا والمعلم يعقوب " حقدا ومقتا ، اما المهزوم فهو مع الخالدين ، الرئيس السادات اشترك في كل حروب مصر فردا وقائدا ، واتنصاره كان انتصارا لمصر ، الا اذا كنت تعتقد ان نتيجة الحرب كانت ستكون هزيمة الكيان هزيمة ساحقة ومعه امريكا ، فهو ان شئت ام ابيت مثل " صلاح الدين وقطز " ، خصوصا وانت تعلم قول " السيسي " الجيش حينها كان مثل " عربة سيات " قبل ان يصبح كارو ولكن ماذا فعل الاخرون " جبهة الصمود والتصدى " الا تذكرك هذه " بجبهة الانقاذ " التي كنت عضوا فيها وماذا كانت نتائجها ، فهي ايضا دروس من التاريخ ، اين. هذه الجبهة الان ، لماذا لم يحاربون ، وعن اى سلام يبحثون ، لقد اصبحت لا تستطيع حتي الشجب البليغ او الاستنكار بشدة ، وما يحدث في سوريا مثال ، ما كان يطالب به الرئيس السادات منذ 40 سنة لم يحصل عليه الفلسطينيون حتي الان ، ومازالت سوريا والاردن ولبنان محتلة ، وتقدم الان هذه المطالبات في مبادرات توسلية مذلة ومهينة " مبادرة عبد الله وهرولة التطبيع " ، ولا تجد لها صوتا او صدى او اهتمام او قيمة من احد ، الرئيس السادات كان قائدا ملهما ، ومفكرا عظيما ، وسياسيا بارعا ذو رؤية شاملة وستقبلية ، وصدق حدسه وتوقعه ، ولم يكن سلامه الا نصرا ، وجبهة الرفس كانوا هم الخاسرون