لا قدر الله، طبعا على الإنسانية أن تعيش نفس الجحيم الذي عاشه جدودنا من 1939 إلى 1945 فيما سمي حربا عالمية ثانية (وهي في الحقيقة أوروبية أمريكية جروا لها اليابان)، بعد أن قاسى آباء جدودنا ويلات حرب عالمية أولى، هي أيضا سوقوها لنا في شكل "عالمية" وهي غربية محضة! اليوم لا بد من رصد ما اندلع من حرب مدمرة بين روسيا وأوكرانيا، هي في الواقع بديل عسكري ساخن للحرب الباردة بين معسكري الغرب والشرق، عشنا نحن "أي جيلي" في ظلالها من 1945 إلى انهيار جدار برلين في نوفمبر 1989 وتنفسنا الصعداء عندما مرت البشرية بأزمة كوبا (عام 1962) بسلام، وكاد كل من (جون. ف. كينيدي) و(نيكيتا خروتشوف) رئيسا الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أن يضغطا على الزرين النوويين، ونجا العالم من كارثة عظمى!.
ولعلنا اليوم أمام
أزمات من نوع مختلف ليس لها حدود جغرافية، دشنت عهدا من (عولمة...الكوارث) الطاقية (غاز وبترول) والبيئية (تلوث المحيطات والبحار واتساع رقع طبقة الأوزون) لتهدد كوكبنا بالفناء المبرمج، ثم جاء الضيف الطارئ متمثلا في الكورونا والأوبئة الخطيرة العابرة للقارات! ولعل الأزمة المالية والاقتصادية التي زلزلت استقرار العالم عام 2008 بإفلاس بنوك أمريكية وضياع الودائع في بنوك أوروبا وروسيا والصين، مثل قطع الدومينو تسقط كل قطعة تلك التي تليها! أما الدروس المستخلصة من الإجراءات النقدية التاريخية التي اتخذتها كل من واشنطن وموسكو ولندن (مقر السيتي) وبرلين والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هي: أولا: الإقرار بأن
الحرب الاقتصادية الساخنة تحل تدريجيا محل الحرب الباردة التقليدية التي كانت إيديولوجية، وانتهت في أول أيام سقوط جدار برلين منذ ثلث قرن، حيث تصارع العملاقان على أسس عقائدية وعلى بسط الهيمنة وخلق مناطق نفوذ، وانقسم العالم إلى غرب ليبرالي وشرق شيوعي على مدى سبعين عاما من السباق نحو التسلح والاستعداد للمواجهة. ولعل السبب الرئيسي هو أن المجتمع الأمريكي مجتمع اقتصادي بالدرجة الأولى، تدخل في اعتباره وتقديره قيمة عملته الأسطورية التي يسميها حسب لونها بالخضراء، ويهم المواطن الأمريكي أن يكون دولاره أقوى العملات؛ أي أن تكون الولايات المتحدة حسب هذا المؤشر النقدي أقوى دولة في العالم من حيث هيمنتها التقليدية على مصير الاقتصاد العالمي.
وكما يعلم الناس، فإن قيمة صرف
الدولار مرتفعة منذ حوالي ستة شهور وتقترب تدريجيا من قيمة اليورو (المنافس الشرس للدولار)، وهو ما خدم حتما سنة 2020 المرشح الديمقراطي السيد جو بايدن؛ لأن هذا المستوى المشرف للعملة الأمريكية محسوب للحزب الديمقراطي ولباراك أوباما، رغم أن الظروف الدولية هي التي كانت وراء هذا الارتفاع، وأن الخزينة الفيدرالية الأمريكية هي المحرك الأساسي لرفع قيمة الدولار. هذه القيمة تاريخية لأنها تحققت في أثناء 2016 في عز تورط واشنطن في حروب الشرق الأوسط ،بانخراط الجيوش الأمريكية في أزمات سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان، وقبل ذلك في أزمة أوكرانيا بسبب غزو روسيا للقرم، مما وضع أمريكا في مواجهات خطيرة وحرب عالمية ثالثة محتملة مع روسيا وربما الصين بسبب تايوان! كما تحقق ارتفاع الدولار أيضا بعد مرحلة الأزمات الخطيرة التي هزت الاقتصاد الأمريكي في 2008 وأصابت العدوى الأمريكية كل هياكل الاقتصاد العالمي من 2008 إلى اليوم، وهو ما وصفته كل من الصحيفتين الاقتصاديتين الكبريين في الاتحاد الأوروبي: (ليزيكو) الفرنسية و(فايننشل تايمز) البريطانية "بالهوة التاريخية أو الرقم القياسي التاريخي". وتلاحظ الصحيفتان أن الأخطر اليوم على الولايات المتحدة هو أن تتفاقم الأزمة بين واشنطن والرياض وبيجين بسبب التلويح السعودي والصيني بسحب المخزون المالي المودع بالمصارف الأمريكية، مما اضطر القوى الاقتصادية والنقدية العالمية إلى إعادة النظر في حساباتها ومراجعة سياساتها أمام العملة الخضراء، التي اعتبرت منذ الحرب العالمية الثانية "قاطرة العملات"؛ أي الميزان الوحيد والدائم لأسواق الصرف وحركات التجارة العالمية ومستوى مصداقية المصارف. فهذه روسيا الاتحادية تعلن يوم الثلاثاء الماضي عن إجراءات لتدعيم مخزونها من اليورو والعملات الصينية واليابانية (وهو يبلغ في العام الحالي 113 مليار دولار)، حيث تضاعف خلال الثمانية أشهر الماضية، بعد أن كان لا يتجاوز 56 مليارا)، ويدعم مخزون روسيا من الدولار كذلك باستمرار ليوازي المخزون الأمريكي! أما المصارف الأوروبية المجتمعة الأسبوع الماضي في البنك المركزي الأوروبي بفرانكفورت، فإنها أعلنت أنها ستعمل على تجميد أرصدتها من الدولار وتعويضها تدريجيا بعملات أخرى مثل الين الياباني وليوهان الصيني بتعلة ضمان التوازنات المالية العالمية.
وقد تأكدت هذه التحولات النقدية الدولية بصدور تقرير المعهد الأوروبي للنشاطات المصرفية، الذي يشير بوضوح إلى عمليات التحول عن الدولار التي تقوم بها المصارف الأوروبية، وتقول السيدة لينا مورتنجن خبيرة الشؤون المالية التي شاركت في تحرير التقرير؛ بأن هذه الإجراءات سوف تستفيد منها كل العملات الأخرى وليس اليورو وحده. وفي هذا المناخ الصعب والمضطرب، شرعت المرشحة الأمريكية الأوفر حظا السيدة هيلاري كلنتون في الإعلان عن حزمة من الالتزامات والتعهدات التي فرضتها الحملة الانتخابية، والتي تتعلق بالتصدي لسقوط الدولار؛ فالمعطيات الدولية تغيرت بشكل كامل، ولم يعد الصراع إيديولوجيا كما قال فوكوياما في كتابه:”نهاية التاريخ”، لكنه أصبح اقتصاديا، وهو تحول كبير لافت في العلاقات الدولية يجب علينا نحن العرب أن نقرأه ونتتبع مضاعفاته، حتى لا نفاجأ بالتغييرات تهاجمنا ونحن في سِنَة من النوم.
فالإجراءات الحمائية التي اتخذها الاتحاد الأوروبي وروسيا وبشكل آخر اليابان، تدل على بداية حرب اقتصادية. والذي يدور هذه الأيام في أوكرانيا هو جزء من الحرب الاقتصادية الساخنة، بسبب وجود الطاقة والمعادن والموقع الجغرافي المتميز لهذه البقاع من العالم.
ثم انظر أيها القارئ الكريم إلى الصراع المفتوح بين شركتي إيرباص وبوينج وبين اليورو والدولار، وبين شركات بيع الأسلحة، فهو صراع يصل إلى حد الحرب الخفية التي تستخدم فيها كل الوسائل، فستكتشف بأن العلاقات بين ضفتي المحيط الأطلسي ليست باللون الوردي الذي يقدم لنا، بل إن مزيد اكتساب مناطق النفوذ السياسي وغزو الأسواق وتأمين الهيمنة التجارية، هما أولوية المشاغل والمخططات لدى الجميع!
(عن صحيفة الشرق القطرية)