بخلاف الكثير من الزملاء لم أنزعج من
تصريحات الدكتور مصطفى الفقي مع الزميل شريف عامر حول
توفيق الحكيم لأنها على الأقل
أعادت الرجل إلى النقاش العام في صحافتنا الثقافية التي كانت قد تجاهلته تماما
وأصبح من النادر العثور على مقال حول أعماله ومواقفه، وهذه خدمة كبيرة من الفقي
يستحق أن نشكره عليها قبل أن نراجعه فيما قال.
الأكيد أن الحكيم يستحق الفوز بجائزة
نوبل لأن ريادته ليست
محل شك وبيننا من يتذكر أن
نجيب محفوظ نفسه حين فاز بنوبل (أكتوبر ١٩٨٨) حمد الله
كثيرا لان هذا الفوز جاء في أعقاب وفاة الحكيم، والا تعرض للكثير من الحرج فكيف له
أن يفوز بجائزة كان أستاذه أولى بها منه، بل انه صرح في اكثر من لقاء بأن يحيى حقي
جدير بها أكثر منه، ورد حقي في مقابلة مع الراحل فاروق شوشة أكد فيها انه سعيد
بالعيش في زمن محفوظ.
ويبقى في كلام الفقي الكثير مما يستحق التعليق والمراجعة
وبالذات الحديث عن أن استبعاد الحكيم من الجائزة بسبب كتاباته الإسلامية وهذا
افتراض غير دقيق لان إسلاميات الحكيم لم تكن خطا رئيسيا في مؤلفاته وإنما هي
انعطافة في مسيرته جاءت على خطى أساتذة عاصروه أو سبقوه من الليبراليين.
وفيما يتعلق بالحكيم ونوبل فهي مسألة جديرة بالدراسة، لأن
الرجل سعى حثيثا ليحصل عليها بل أستطيع الزعم بأن دعمه للسادات في زيارة إسرائيل
جاء في اطار هذا السعي، فقبل هذا الدعم كان السادات يصفه بالعجوز المخرف بسبب
بيانه الشهير لمناصرة الحركة الطلابية. لكن بعد تأييد الحكيم لكامب ديفيد قام
السادات بالاتصال بالسفارة المصرية بالسويد طالبا من السفير المصري هناك أن يتحدث
إلى الدكتور عطية عامر الأستاذ بجامعة ستوكهولم ليساعد في حث الأكاديمية السويدية
المانحة لنوبل ودعم فرص الحكيم في الحصول عليها كمرشح رسمي وهي مسألة مثيرة
للسخرية.
وقد سبق لي أن نشرت في العام ٢٠١٤ بصحيفة الأهرام وعلى أسبوعين
متتاليين رسائل كتبها الحكيم لمدير عام في اليونسكو كان صديقا له يجاهر فيها
برغبته تلك، ويؤكد استعداده لحث السادات على زيارة إسرائيل إذا لزم الأمر وكنت قد
حصلت على تلك المراسلات من المخرجة والمصورة هالة القوصي التي وجدتها مصادفة لدى
بائع روبابيكيا وقد ترجمتها عن الفرنسية وقدمتها لي وقمت بالعمل معها على تحقيق
وقائعها.
وبعدما أثار الفقي ما أثاره نشرت الصديقة هالة القوصي
الواعية بقيمة ما لديها من أوراق المزيد منها على صفحتها الخاصة بفيس بوك بأمل
توضيح الصورة كاملة.
ونظرا لأهمية ما تضمنته المراسلات أسمح لنفسي باختصار اهم
ما فيها، فقد ترجمت القوصي مسودات لخطابات كتبها الحكيم إلى جان دورميسون مدير
باليونسكو يوضح فيها موقفه المساند كلية للتطبيع ورؤيته لدور الأدب في المجتمع
وجاءت المسودة الأولى في خمس صفحات وتعود لنهاية السبعينيات وفيها يتساءل الحكيم
وقد كان وقتها رئيسا لاتحاد مصر: (كيف أجد السبيل إلى جمع الكتاب من جميع البلاد
حول عالمية مهمتهم من أجل تقدم الإنسانية"؟ للأسف، حتى كلمة تقدم لم تعد تعني
شيئا واحدا. عندما نقول تقدمي نعني شيوعي. كيف إذا نعيد جمع الكتاب في بلد واحد أو
في كل البلاد ونجعلهم يتكلمون نفس اللغة في خدمة الإنسان، الإنسان باختصار، بعيدا
عن تأثير السياسة.
وهناك مسودة أخرى من خمس صفحات أيضا يشكر فيها صديقه على
تعاطفه معه بمناسبة موت ابنه الوحيد إسماعيل، ويقول فيها (لأسترخي بعض الشيء كنت
قد خططت لرحلة، لكن بسبب الإرهاب ينصحني أصدقائي بعدم ترك ببلدي وخصوصا بعد اغتيال
نائب رئيس اتحاد الكتاب (يوسف السباعي) والذي أنا رئيسه في قبرص العام الماضي.
كانت جريمته التي استحق عنها الموت أنه انضم لمبادرة السادات وزيارته للقدس. أنا
نفسي كتبت في كل مكان للتصديق على هذه الزيارة واقترحت أيضا إنشاء مؤسسة إسرائيلية
ــ عربية تحبذ الوجود المشترك للشعبين (جريدة لوبوان ــ ١٢ نوفمبر ١٩٧٧ ولونوفيل
أوبزرفاتير ــ ٥ ديسمبر) .
في جميع المراسلات دعا الحكيم صراحة لتعاون ثقافي بين
البلدين قائلا (اليوم بعد السلام بين مصر وإسرائيل لابد من إقامة صداقة حقيقية بين
الشعبين) .
وبتعبيره هو فإن هذه الدعوة (أثارت غضب المتشددين وقال (وضعوني
على «القائمة السوداء». ماذا فعلت؟ هل الدعوة للحب والعدل بين شعوب المنطقة جريمة؟
رؤية الإسرائيليين والفلسطينيين مستقرين في سلام، كل في وطنه، أليس هذا حلم كل
العالم؟
وتظهر المسودة الثالثة المزيد من الغزل الذي قدمه الحكيم
للمؤسسات الدولية لكي ينقل لها موقفه الذي كان آنذاك على النقيض من مواقف غالبية
المثقفين، وفي إحدى الصفحات يعطي إفادات قيمة حول زيارة قام بها إلى فلسطين فترة
(١٩٤٥) ويقول (وفي خلال إقامتي في تل أبيب استقبلني مخرجو الفرقة المسرحية
المشهورة «حابيما» (أو هابيما) وهناك قابلت ماكس برود، صديق كافكا والذي كان حينها
المستشار الأدبي للفرقة. وحدثوني عن إمكانية إنتاج مسرحيتي سليمان الحكيم والمبنية
على الإنجيل والقرآن.، ويضيف (إلى هذا الحد كان التعاون الثقافي والفني ممارسا في
تلك الفترة. لماذا إذا تحول كل هذا إلى عداء؟ هذه حكاية طويلة. ولكل طرف حجته، لكن
في رأيي ليس هناك إلا جذر واحد لشجرة الشقاء هذه: الخوف. الخوف لدى إسرائيل أن تجد
نفسها ملقاة في البحر على يد جيرانها العديدين. خوف لدى جيرانها من أن يجدوا
أنفسهم مهددين بالعسكرة الإسرائيلية. هل يمكن أن نقنع هؤلاء وهؤلاء أن خوفهم مبالغ
فيه ولا أساس حقيقيا له. ويواصل (السلاح الوحيد في رأيي ضد الخوف هو التفاهم،
التفاهم المبنى على الفائدة وليس على العداء)
.
ويشير كذلك إلى رغبته في بناء مؤسسة عربية إسرائيلية تقود
إلى التعايش ويضيف (قدمت لهذا الغرض مبلغ ٣٠٠ دولار وهو ما باستطاعتي في الوقت الحالي.
هل أنا على صواب؟ هل سيكون لي أصدقاء ومقربون سيدعمون هذا الاقتراح؟ أنتظر بأمل
وتفاؤل.
توقع الحكيم قيام دولة فلسطينية طيبة في إحدى المسودات
وكتب (منذ بضعة أسابيع تلقيت زيارة من عضو الكنيست السيد يوري أفينيرى والذي كان
لتوه قد قابل الرئيس مناحم بيجين ونقل لي عنه رأيه في أن إقامة دولة فلسطينية
مجاورة هو خطر حقيقي على أمن إسرائيل. وقد أجبته: هذا ما هو إلا افتراض. من يدرى؟
هناك أيضا احتمال آخر. لا شيء يمنع من اعتقاد أن دولة فلسطينية من الممكن أن تكون
جارة طيبة لإسرائيل. لماذا نفقد الأمل؟
يستحق ما لدى هالة القوصي أن ينشر على نطاق واسع وبشكل
كامل ومحقق يربطه بالسياق العام الذى انتج فيه والمعارك المرتبطة بنوبل بالتطبيع
وهي معارك ستتكرر دائما كلما بلغ أحد الكتاب العرب منصة التتويج العالمي.
(الشروق المصرية)