خير اللهم اجعله خيرا، قبل يومين وبُعيد الفجر، رأيت نفسي في حديث بسيط مع الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، كان مرتدياً حُلّة كحلية يقف قبالتي، وأنا جالسٌ على كرسي مرتفعٍ، قلت له ومن دون أي صفة تخاطب رسمية «العرب من دون مصر كالجسد بلا رأس، وإذا مصر مش بخير فالعرب لن يكونوا بخير».
ابتسم وكاد أن يضحك، وهزّ رأسه، كأنّه يشمتُ ويقول، هل عرفتم قيمتي الآن!
استيقظت وحاولتُ تفسيراً، الحقيقة أنني خفت أن أكون متورِّطا في فساد ما، أو أنَّ أجلي قد حان، لأنه راحل وليس من أهل الحياة، بعد دقائق من البحث تذكّرت أنني في الليلة السّابقة تحدثت مع شاب من قطاع غزة، وأجرينا مقارنة بين حكم مبارك وحكم السيسي، أكّد الغزِّي خلالها أن فترة مبارك كانت أرحم وأفضل للغزّيين.
إذن، يبدو أن المنام جاء بتأثير المحادثة الأخيرة.
طبيعي أن تُجرى مقارنات كهذه ليس في مصر فقط، بل في كل بلد حدثت فيه ثورة.
يشعر كثيرون بالإحباط، وتسمع كلاماً مثل «ماذا فعل لنا
الربيع العربي؟» وهناك قائل إنّ الأوضاع كانت أفضل قبل هذا، وعلى الأقل كان هناك استقرار وأمن.
مثلُ الجسد العربي مثل المصاب بمرض خطير، يضطر لإجراء عملية جراحية، وقد تتعقّد العملية، ولكن هذا لا يعني أن المرض كان جيّدا، وخسارة أننا لم نبقه على حاله، وما كان علينا أن نلمس موطن المرض. لم تقم الثورات ترفيها ولا نتيجة فائض من الطاقة عند الناس، فقرّروا هيا نثور! الثورات اندلعت بعدما طفح وفاض كيل الكبت وانتهاك الحريات الشخصية وإفقار أكثرية الناس، بينما تزداد طبقات الفساد المقرّبة انتفاخا، وتستباح كرامات الناس ويحرمون من أبسط حقوق الإنسان.
أما ما حدث بعد الثورات وما زال يحدث، فهو ليس ذنب الثورات ولا من ثاروا، الأنظمة القمعية والديكتاتوريات هي نفسها المسؤولة، ومن استمرُّوا في نهج القتل والدمار وسجن الأحرار وإذلالهم، هم نسخة رديئة عن سلفهم غير الصالح. القضية ليست مفاضلة بين سيّئ وأسوأ، ولا بين ظالم وأشد ظلماً وظلاماً. فمن حق العرب أن يكونوا مثل كثير من شعوب الأرض، حيث يُحترم الإنسان كإنسان، ينال حقوقه بكرامة وبقوة الدستور والقانون، وأنْ يكون بإمكان مواطن عادي محاكمة أي مسؤول، حتى لو كان رئيساً أو وزيراً من دون التعرض لأذى. أن يكون بمقدور امرأة أو فتاة أن تطيح بمسؤول كبير من وظيفته لأنّه تحرَّش بها في مكتبه. أن يكون بوسع كلِّ كاتب أو صحافي أن يكتب ما يخطر في باله، وأن يدلي رأيه بما يجري في البلد سلبا أو إيجابا، من دون خوف من قطع رزقه أو سجنه وتغريمه، أن يكون بإمكان أي فنان أن يخرج فيلما أو مسرحية، أو أي عمل فني آخر، من دون التعرض للمساءلة والمحاكمة والملاحقة، أن لا يضطر الصحافيون إلى الرّدح وتمجيد النظام وإلا فالبطالة. لم تذهب دماء ضحايا الربيع العربي هدراً، ولا أيام من ما زالوا في السُّجون، ولا أولئك الذين شُردوا أو اضطروا إلى هجرة أوطانهم خشية على أرواحهم وبحثاً عن مكان آمن لهم ولأسرهم، لكل هؤلاء حقوق لن تموت مع التقادم.
انطلاق الثورات العربية هو في ذاته انتصار للشعوب، أثبت العرب أنهم أمَّةُ حيّة، لم تستكن لحالة الذّل التي فرضتها مجموعة أنظمة لا شبيه لها في رداءتها عالمياً.
أما اختطاف الثورات وإغراقها بالدماء فهذه مسؤولية الأنظمة نفسها التي قرّرت التمسُّك بالسُّلطة ولو على خراب البلد، وعلى من انقلب على الشَّرعية، وهذا قبل أية عوامل أخرى خارجية تدخّلت لتخرّب وتحرم الشعوب من ثمار ثورتها. لا مكان للشماتة يا سادة، فالثورات لم تكن نزوة عابرة، والجمر ما زال فوق الرماد وتحته، وستبقى كلمات المرحوم المواطن التونسي أحمد الحفناوي خالدةً، «لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية».
يهرم الأفراد ويرحلون، ولكن الشُّعوب لا تهرم، بل تزداد عراقة وتجارب، وما الربيع العربي الذي أغرقوه في الدم سوى حلقة أخرى من ثورات الشعوب على الاستبداد، والقضية قضية وقت، فدورُ العرب وحظهم بالحرية والكرامة لن يكون ناقصاً، سوف يحظون بالاستقرار القائم على أساس العدل والحرية وكرامة الإنسان وليس الاستقرار الوهمي القائم على القهر والإرهاب والسُّجود للطواغيت.
(
القدس العربي)