قضايا وآراء

شعب تفرقه الصغائر وتنهكه الكبائر في تونس المستباحة

بحري العرفاوي
زبن العابدين بن علي زار البوعزيزي بعد إحراق نفسه لتهدئة الوضع مع انطلاق الثورة- الرئاسة
زبن العابدين بن علي زار البوعزيزي بعد إحراق نفسه لتهدئة الوضع مع انطلاق الثورة- الرئاسة
ما الذي يمنع شعبا متجانسا حضاريا وتاريخيا وعقديا ومذهبيا من أن يتحد في مواجهة قضايا مصيرية تتعلق بمستقبل البلاد والأجيال القادمة؟ ما الذي يجعل سياسيين وإعلاميين ونقابيين وكتّابا ومثقفين وأكاديميين يُرخون حبل الوصل المتين ويتعلقون بنسيج عنكبوتي لا ينفع ولا يدفع أذى؟ ما الذي حدث حتى تغير مزاج التونسيين بعد أن اتحدوا في 2011 لتحرير أنفسهم من قبضة الاستبداد؟

لقد ظلت روح البوعزيزي لعدة أيام بعد احتراقه في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 حاضرة كما عصفور الجنة، تطّوّف بين الحشود الشعبية من الجنوب إلى الشمال ومن ساعة إلى أخرى، تقترب من الواحة الظليلة حيث يستعيد الشهداء المشهد وتستجمع الجماهير روحانيتها المتوهجة.

لقد أوقدت روح الشهيد يومها مخزون شعبنا ومدخراته من كل معاني الخير والحب والكرامة والتضحية والصبر، وكنا يومها كما لو أننا نكتشف هذا الشعب لأول مرة بعد عقود من التجفيف والتفريغ مارسها عليه سياسيون يختلفون في العناوين ويشتركون في المناهج، كان الشعب كما لو أنه يكتشف نفسه التي حجبوها عنه ليعرف أنه قادر على الإطاحة بأعتى ديكتاتور، وأنه شجاع وملتحمٌ وذكي.
كنا يومها كما لو أننا نكتشف هذا الشعب لأول مرة بعد عقود من التجفيف والتفريغ مارسها عليه سياسيون يختلفون في العناوين ويشتركون في المناهج، كان الشعب كما لو أنه يكتشف نفسه التي حجبوها عنه ليعرف أنه قادر على الإطاحة بأعتى ديكتاتور، وأنه شجاع وملتحمٌ وذكي

كل المدن بشوارعها وأحيائها وأزقتها كانت عامرة بأفواج من الأطفال والشباب والكهول والشيوخ، يسهرون الليل كله -لا قليلا- يحرس بعضهم بعضا وتهب جموع كلما دبّ دبيبٌ غريبٌ، إنهم يتقاسمون الشاي والقهوة والطعام في مشهد من التآزر والإيثار لم نشهده من قبل. لقد حجبوا طيلة عقود أجمل ما في شعبنا من القيم السامية ومن المبادئ الكبرى ومن الروحانية الإنسانية الفريدة، إنها تونس الحقيقية التي لم نرها من قبل. لم يُعلمونا معاني الكرم والتسامح فيها إلا في أبعادها السياحية الدعائية، ولم يعلمونا معاني التضامن فيها إلا في سياق سياسة التدجين والتجميع والتنميط.

تونس كانت يومها تتبدى كأجمل ما تكون وكأبهى ما يجمل، مبهرة وساحرة هذه المرة في عيون المراقبين والمحللين وعلماء العمران البشري. لم تر العيون السائحة فيها طيلة عقود هذه الأعماق ولم تكتشف فيها هذه الأسرار العميقة.

كنا نلهج يومها مبتهجين: يا تونس يا نقاوة الدماء ويا صفاء الروح ويا نداء التحرر ويا علامة المستقبل، أنت أرحب من كل أحلامنا وأنت أعمق من كل قراءاتنا وتأويلاتنا، وإنا نستحي من أنفسنا فلا ندعي أننا كنا في مستوى ما تفاجئيننا به كل يوم.

كان أملنا يومها أن نهيب جميعا بدماء شبابنا وذكائه وشجاعته، فلا نشوش على ثورته ولا نساوم في دمائه ولا نتنازل عن شعاراته، ولا نستولد من الثورة أحقادا ولا غرائزية سياسية ولا نزوعا ثأريا ولا خطابا إقصائيا ترهيبيا تجاه أبناء وطننا من المختلفين، وحتى من ضعاف النفس الذين دفعهم الخوف إلى الضعف دون أن يتحولوا إلى مخالب نهش في أبناء شعبهم.
ما الذي جعل التونسيين "يدمرون" حلمهم ويحاصرون مستقبلهم بكتل من اليأس والقتامة، حتى لكأنهم ليسوا جديرين بحياة الحرية والكرامة والرفاهة؟

تونس أيتها العظيمة لقد كان العالم كله يراقب كيف تكبرين كل يوم وكيف تسافرين في أعمق أعماقك، ما الذي فعله بك ومعك التونسيون بعد أن كان الحلم عظيما؟

نحن بحاجة أكيدة إلى خطاب المحبة والأمل والشوق، بحاجة إلى صياغات فيها جمال وخصوبة وروعة خيال حتى نتحرر قليلا أو كثيرا من خشونة خطابات السياسة ومن عجرفة السياسيين، ومن صياغات الكراهية والحقد والسباب والشتائم وما تخلفه في الأنفس من كدر وتوتر وضيق صدور وقلق على الحاضر وعلى المستقبل..

ما الذي جعل التونسيين "يدمرون" حلمهم ويحاصرون مستقبلهم بكتل من اليأس والقتامة، حتى لكأنهم ليسوا جديرين بحياة الحرية والكرامة والرفاهة؟

لقد أصبح العالم كله ينظر إلينا على أننا فاشلون، فلا نحن حافظنا على انسجامنا المجتمعي ولا نحن حققنا تنمية نتحرر معها من التبعية فلا نكون شعب متسولين يرتبط مصيرهم الغذائي بالصناديق المانحة أو المقرضة.

غرقنا جميعا في التفاصيل وانشغلنا بصغائر الأمور وبدّدنا جهودا وأضعنا فرصا، حتى داهمتنا كبائر الأمور فعجزنا عن فهما وعن معالجتها، لقد تحولت بلادنا إلى "ملفّ" تمسك به جهات إقليمية ودولية ويتباحث في أزمته خبراء وفنيون ورجال سياسة واستخبارات
مع الأسف لقد خاض التونسيون السياسة التي حُرموا منها زمن حكم الفرد، بكثير من الأنانية وانعدام الثقة، فاشتغل كل حزب لمصلحته الحزبية واشتغل كل سياسي حتى داخل حزبه لمصلحته الفردية. لقد غفل الجميع عن سفينة يركبونها معا وتشق بهم عباب نفس البحر، وتتقاذفهم معا رياح وعواصف وأعاصير.

لقد غرقنا جميعا في التفاصيل وانشغلنا بصغائر الأمور وبدّدنا جهودا وأضعنا فرصا، حتى داهمتنا كبائر الأمور فعجزنا عن فهما وعن معالجتها، لقد تحولت بلادنا إلى "ملفّ" تمسك به جهات إقليمية ودولية ويتباحث في أزمته خبراء وفنيون ورجال سياسة واستخبارات.

ستقول الأجيال القادمة بأن آباءهم هم من سلموا بلادهم لقوى خارجية ترسم لهم مستقبلا وتضبط لهم حركة السير وتتصرف في ثرواتهم، وتضع لهم برامج التعليم والثقافة وتتأول لهم نصوصهم الدينية بل وتجتهد في تشريعاتهم.

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)