انقضى الشّطر الأوّل من شعبان، ومضت ليلة النّصف منه، وعُرضت الأعمال على العليم الخبير؛ فغفر لمن استحقّ المغفرة، ورحم بفضله من رحم، ولم يبق بين يدي
رمضان سوى أيام معدودة؛ يَجمُل فيها للعبد المؤمن المفرّط أن يتحسّر على ضياع فرصة مغفرة الذّنوب في النصف من شعبان، ويتّخذ قراره بالالتفات إلى نفسه الغافلة التي تفوّت عليه فرص العمر، فرصةً بعد فرصة، ويبدأ في تهيئته قلبه لرمضان، لعلّ رمضان هذا العام يكون رمضان العمر.
رمضان، هو شهر تَفتّح أبواب الجنان وتفتّح أبواب القلوب، شهر العتق من النيران وتطهير القلوب من الرّان والأدران، وهو شهر التوبة والغفران ومغفرة الذّنوب صغائرها وكبائرها.. شهر مليء بالهبات والعطايا والفرص، لكنّه يحتاج إلى قلوب مستعدّة وأرواح متهيّئة، وإلى تدريب ومران.. وأحسن أوقات للتهيؤ لرمضان هي أيام شهر شعبان.. قال أبو بكر الوراق البلخي -رحمه الله-: “شهر رجب شهرٌ الزرع، وشعبان شهر سقي الزرع، ورمضان شهر حصاد الزرع”.. ها هو شفيعنا المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- يعلّمنا الاستعداد والتهيؤ لشهر الحصاد في شهر السّقي، فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”.
هكذا كان قدوتنا يجتهد في تهيئة قلبه وروحه في هذا الشّهر استعدادا لشهر العطاء رمضان، وهو المعصوم الذي شُقّ صدره وغسل قلبه ثلاث مرّات.. وعلى نهجه سار أصحابه رضي الله عنهم؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “كان أصحابُ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إذا استهلَّ شهر شعبان أكبّوا عَلى المصاحف فقرؤوها وأخذوا في زكاة أموالهم فقووا بها الضعيف والمسكين عَلى صيام شهر رمضان”.. وعلى نهجهم سار التابعون وتابعوهم بإحسان، قال الإمام ابن رجب الحنبلى رحمه الله: “قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن. قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن”.
رمضان هو شهر المنح والعطايا، وشهر أفراح القلوب والأرواح، لكن لمن؟ لمن هيّأ قلبه وروحه ونفسه لاستقبال رمضان، ليس بتجديد أثاث المطبخ ولا بشراء المؤونة الكافية من الطّعام، إنّما بتجديد القلب وتهيئة الرّوح وترويض النّفس، وتغيير البرنامج الخاطئ الذي اعتاد عليه العبد قبل رمضان.. رمضان هو جنّة الشّهور، ولن يدخل جنّة رمضان من لم يتهيّأ له.. لن يجد العبد المسلم لرمضان حلاوة ما لم يتهيّأ له بالصيام والقيام وتلاوة القرآن. قال ابن رجب: “أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده، وذلك لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده”. (لطائف المعارف: ص129).
كثير منّا لا يهتمّون بالرواتب القبلية والبعدية للصّلاة، ويهتمّون بالراتبة البعدية لرمضان فيصومون الستّة من شوال، لكنّهم يغفلون عن الراتبة القبلية لرمضان، فلا يصومون من شعبان قليلا ولا كثيرا، ولا يراجعون حالهم مع القرآن في شعبان استعدادا لرمضان، ولا يمرّنون أنفسهم على القيام تهيؤا لشهر القيام، ولا يعوّدون أنفسهم الصّدقات في شعبان استعدادا لشهر الجود والإحسان.. وهذا من التقصير، ومن قصّر في شعبان يصعب عليه أن يجتهد في رمضان ويجد للصّيام لذّة وللقيام حلاوة.
يقول أحد الدّعاة: “قبل صلاة الفريضة ركعات نافلة؛ يهيئ فيها المرء قلبه للفريضة، والمتهيئ للفريضة بركعتين قبلها يعرف طعم ما بعدها. وما تأخر الناس عن الفريضة إلا عندما أهملوا أمر الرّاتبة.. وقبل دخول مكة للحج أو العمرة ميقات يغتسل فيه الحاج أو المعتمر، ويخلص نيته ويشرع في تحضير قلبه لما هو مقبل عليه، فيلبي ويستغفر ويقرأ القرآن ويبكي ويتضرع حتى إذا ما بدأ في الشعيرة بدأها بقلب حاضر. كذلك رمضان، أمتع الناس به من جهز قلبه قبل دخوله، فتراه يستمتع به من أول لحظة. لذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش شعبان كأنه رمضان؛ يصوم أغلبه، ويراجع نفسه في وسطه، حتى إذا ما بدأ السباق تقدم من أول قفزة.. وما دخل رمضان باردا فاترا على قوم إلا لأن عضلة الحس في القلب لم تُحْمَ بعد. فتراهم مساكين؛ مضى عليهم من الموسم نصفه ولم تدمع لهم عين أو تحلُ في قلوبهم آية” ا.هـ
رمضان الصالحين بدأ منذ أمد، وأنا وأنت أخي الكريم، ما زلنا مشغولين بدنيانا الفانية.. لم يبق لحلول رمضان سوى أيام ونحن على ذات السيرة والسريرة، كما كنّا في رجب وجمادى وربيع وصفر ومحرم… ألا فلنبدأ وكفانا توانيا وتكاسلا.. كم رمضان أضعنا من أعمارنا؟ وكم رمضان بقي أمامنا؟
رمضان اقترب، وليس يكفينا في مثل زماننا العصيب هذا أن يرضى الواحد منّا بالتفكير في أن يكون من الصّالحين؛ ينبغي للواحد منّا أن يفكّر في أن يكون رمضان بدايته ليكون من المصلحين.. إذا كان رمضان الصالحين صلاة وصياما وقرآنا وقياما، فإنّ رمضان المصلحين يزيد على ذلك بتفقد المحتاجين، وإعانة المعدَمين، وتفطير للصائمين، والدعوة إلى الله، والدّلالة على الخير.
رمضان قادم، وبيننا أسر أرهقها الغلاء وأنهكها الفقر، وهي تنتظر أيدي المحسنين أن تمتدّ إليها بالزّكاة والصّدقات، فلا يجوز لنا أن نكسر قلوبها ونخيّب أملها في إحساننا.. نعم، الغلاء قد أرهقنا جميعا، لكن ليس من وجد كمن فقد، ليس من يكسب راتبا ثابتا كمن أرهقته البطالة، وليس من يكسب أرباحا من تجارته كمن أنهكته الديون.. كلما كان المال أعز، كان الأجر أعظم، وكلما كانت الأسعار أغلى، كان الأجر أوفى وأوفر، فلا يحملنّا الغلاء على البخل والإمساك.. يقول الله تعالى: ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ))، ويقول سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ تبوؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.. وحينما سئل الحبيب -صلّى الله عليه وسلّم-: أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: “أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل البقاء”.
(الشروق الجزائرية)