قدمت مسارح مصر على خشبتها الكثير من التحف الفنيّة التي ما زالت عالقة في أذهاننا حتى اليوم، شاركتها بلاد الشام، والمغرب، والعديد من الدول العربية في هذا التوجه الفني بدايةً، وكان لهم دور مهم في تقدم الفن المسرحي العربي، ولكن لم يستمروا فيه بشكل ملحوظ وجلي كما فعلت مصر، وقد يكون السبب وراء ذلك هو الاستقرار السياسي والنهضة الثقافية التي تمتعت بها مصر في ذلك الزمان.
ورغم ما واجهته المسارح من تحديات، إلا أنه لم يُمسح عن الوجود نهائيًا، وما زال هناك بعض الأشخاص الذين يرتادون المسارح لمشاهدة المسرحيات المُقدمة، ومتعتهم تظهر على أعينهم المليئة بالدهشة.
حملت خشبة
المسرح المصري أقدامًا تعمل بجد، ورسمت قصصًا متسلسلة وأحداثًا واقعية تعد جزءًا لا يتجزأ من حياة العامة، جسّدت الواقع تارة، وغرقت في بحر الخيال تارة أخرى، وصوّرت مشاهد سالت لأجلها الدموع من الضحك مرة ومن الحزن مرة أخرى، وقدمت حوارات مؤثرة جرت كأمثال على ألسنة العامة حتى يومنا هذا.
لكن ومع مرور الوقت، أصبحت أصوات
الممثلين المسرحيين خافتة، وأضواء المسارح شاحبة، ولا نكاد نسمع الآن من تصفيق الجمهور إلا صدى التفاعل والحماس القديم.
وغياب الأعلام التي شاركت في إعلاء شأن المسرح، وما زالت حتى الآن تعتبر قدوة في هذا المجال، قد يؤثر على قوة المسرح وجمهوره، وحتى على الحركة الفنية المسرحية في مصر.
وفي هذا السياق، قال الناقد المسرحي المصري طارق الشناوي، في حديثه لـ"
عربي21"، "المؤكد أن المسرح المصري اليوم يمر بأزمة على مستوى القطاع الخاص، وأقصد بالقطاع الخاص سمير غانم، وعادل إمام، ومحمد نجم، وغيرهم مِمن كان يحصّل إيرادات ضخمة من المسرح، وبما أن سمير غانم ومحمد نجم توفيا، وعادل إمام توقف عن التمثيل المسرحي، فقد بدأ الجانب الشعبي والجماهيري يتضاءل".
نهضة مسرحية
بالعودة إلى التاريخ، كان لثورة يوليو عام 1952 أثر كبير على
النشاط المسرحي المصري، وشهد المسرح نهضة واضحة تمثلت في المسرحيات التي ظهرت عقب الثورة، وخاصة في فترة الستينيات، فمسرحيات الستينيات تعد من أفضل ما أنتج المسرح المصري، كما تعد الفترة الذهبيّة لهذا المجال.
أكّد الممثل المسرحي "محمود الحديني" في تصريحاتٍ إعلاميّة له أنه "عندما نتكلم عن مسرح الستينيات، نتكلم عن فترة زاهية في تاريخ المسرح المصري، فترة خرّجت كبار الكُتّاب، وكبار الممثلين، وكبار المخرجين". وأردف: "جميع فناني المسرح العربي تربوا على نتاج مسرح الستينيات".
لكن بعد ثورة 25 يناير 2011، قد لا نجد كل هذا التقدم المسرحي، بل ربما شهدنا بعض التراجع فيه، ولم نعد نشهد بريقًا للمسارح المصريّة كما كنا نجدها في الماضي، كما قل الجمهور المتلهف للمسرحيات.
علّق الشناوي على ذلك بالقول إن "هناك محاولات على مستوى مصر اليوم، واطّلعتُ على بعضها مثل مسرحية الحفيد، لكن لا أستطيع القول بأن هناك نهضة مسرحية، وعروضا متدفقة كالسابق، وأتمنى أن يكون المناخ صحيا أكثر، ويعود الألق المسرحي الذي اعتدنا عليه".
مسرح مصر
ولعل المثال المسرحي المصري المشهور في عصرنا الحالي، هو "مسرح مصر" الذي يراه البعض تشويهًا لصورة المسرح المصريّ العريق، والذي قد يراه البعض الآخر تجديدًا ومواكبة لأغراض العصر، والذوق الفني الحديث.
وبين المخرج والممثل المصري "محمد صبحي" رأيه في ذلك، من خلال مقابلة تلفزيونية: "لقد فرحنا بهذه التجربة جدًا بالبداية، لأنها كانت نقطة نور في عهد ظلام، وزمن ظلام بعد الثورة، ولكن بعد الموسم الأول أصبح الأمر انفلاتًا".
وأردف صبحي: "إن رأيي في هذا المسرح رأي أكاديمي، فلا أستطيع أن أقول عنه مسرحًا، بل هو اسكتشات مسرحية".
رد الممثل المصري أشرف عبد الباقي -أحد ممثلي مسرح مصر- على هذا النقد من خلال مقابلة تلفزيونية، قائلاً: "إن مسرح مصر مشروع مهم في مسيرتي، كما عُمِلَ في توقيت مهم، فالمسرح في ذلك الوقت كان متوقفًا تماماً في مصر، فكان من المهم أن يعود المسرح، حتى لو بشكل مختلف عن المعتاد".
أما الناقد طارق الشناوي في حواره لـ "
عربي21"، قال: "لا أحبذ مصطلح التشويه، فلا يشوّه مسرح مصر صورة المسرح المصري، لكن لديه منهج أقرب للاسكتش من العرض المسرحي، ومسرح مصر قدم شيئًا قد لا يعجب من هو متحمس لصورة المسرح المصري الرصين والتقليدي، لكن هذا لا يُعد تشويهًا لصورة المسرح"، مضيفا: "أن تقدم شيئًا أفضل من الصمت ".
هل سيختفي المسرح المصري؟
إن تراجع الفن المسرحي المصري قد يقلق البعض من أن تختفي المسرحيات المصرية، أو أن ينضب نور المسارح حتى ينطفئ تمامًا، وانتهاء التراث المسرحي عند هذا الحد.
ردّ الشناوي على هذه التخوّفات، بقوله: "أنا أراهن على القادم دائمًا، وأتصور أن القادم سيكون أفضل، ولدي قناعة بأنه علينا أن ننتظر".
وأضاف: "رأيتُ عرضًا اسمه (تشارلي) من إنتاج هيئة الترفيه، لكنه عرض مصري ناجح، وعرض (ميمو) الذي كان من بطولة أحمد حلمي، وهو من إنتاج هيئة الترفيه كذلك، وسيعرض في القاهرة بعرض جماهيري، وكل هذا يصب في المسرح أخيرًا".
وفيما يتعلق باحتمالية انتهاء الفن المسرحي المصري أو انقراضه بعد سنوات، علّق الشناوي: "إن المسرح المصري لن ينتهي، وهذه ليست نهاية المطاف، وقد يكون هناك أمور أخرى".
وما زلنا حقًا نتطلع لإنتاج مسرحي حديث، يعيد بريق المسرح المصري القديم.