قضايا وآراء

الإنسان في القرآن.. معنى الاستغفار (15)

أحمد أبو رتيمة
الأناضول
الأناضول
الاستغفار قبل أن يكون كلماتٍ يردِّدها اللسانُ، فهو حالةٌ شعوريَّةٌ قلبيَّةٌ يعلم بها الإنسان ذنوبَه ويلوم نفسَه ويندم ويؤوب إلى الطريقِ الصحيحِ، وهو ما يعني يقظة النفسِ وحمايتها من الغفلة مما ينتجُ عنه تصويبُ المسارِ، إذ إنَّ الوعي بالخطأ أول طريقِ الإصلاح والارتقاء.

الاستغفار يدرِّب الإنسان على الصدق ويحرره من الأوهام، لأن تحميل النفس المسئولية شجاعةٌ لا يقدر عليها الأدعياء، فإذا عوَّد الإنسان نفسه على مواجهتها والتفتيش في نقائصها ورذائلها فإنه يصير صادقاً شفافاً لا يستغرق في الوهم ولا يتهرَّب من تحمُّل المسئولية.

والاستغفارُ منهجٌ راسخٌ في الفطرةِ الإنسانيَّةِ قبل الشرائعِ، وفي سورة يوسف يقول العزيزُ لامرأتِه: "واستغفري لذنبِكِ". مع أنَّ سياق المعالجة يظهر أنَّهم لم يكونوا مؤمنين، لكنَّ الاستغفارَ حاجةٌ إنسانيَّةٌ يفرضها الصدق مع النَّفسِ والشعور بضرورة العودة إلى التوازنِ الكونيِّ إذا أخطأ الإنسانُ، قبل أن تكون تكليفاً دينيَّاً.

الاستغفارَ حاجةٌ إنسانيَّةٌ يفرضها الصدق مع النَّفسِ والشعور بضرورة العودة إلى التوازنِ الكونيِّ إذا أخطأ الإنسانُ، قبل أن تكون تكليفاً دينيَّاً

ومِمَّا يظهر رسوخ معنى الاستغفار في فطرةِ الناسِ شيوع معنى "الكفَّارةِ" في الموروث الإنسانيِّ، فالإنسان إذا ظلمَ واقترف ذنباً شعرَ في أعماقِه أنَّه طغى في الميزانِ، والكفارة التي تعرفها كلُّ الأممِ ليست سوى محاولة النفسِ لإعادة التوازن.

الاستغفار هو نقطة الافتراقِ الأوليَّةُ بين أبينا آدم وعدوِّنا إبليس. فقد تدارك آدمُ ذنبه بالاستغفارِ والإنابةِ: "قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (يوسف: 23).

أما إبليس فأبى واستكبر وأصرَّ:".. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (34).

فكانت النتيجة أن آدمَ تلقَّى رحمةَ الله لأنَّه أقرَّ بضعفه وندم على عصيانه: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (37).

بينما استحقَّ إبليس اللعنة جزاءً وفاقاً على الكبر: "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ" (الأعراف: 13).

إنَّ الله تعالى لا يطالب الإنسان الضعيف أن يكون معصوماً منزهاً، ولكنَّه يرضى منه أن يظلَّ في حالة يقظةٍ ومراجعةٍ وتوترٍ تدفعه إلى التطهُّر والارتقاء كلَّما زلَّ وضعف.

- "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران: 135).

- "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ" (الأعراف: 201).

هذا قدر الله في الإنسان أنه خُلق ضعيفاً وقد ظهر ضعفه منذ ذنبِ آدم، لذلك فإنَّ التصوُّر القرآنيَّ يتقبَّل ضعف الإنسانِ ويحثُّه على المسارعة إلى إبصارِه والإنابة منه، لكنه لا يرضى للإنسان الاستكبار والإصرار على الذنب.

بل إنَّ اللهَ تعالى يقسم بالنفس اللوامةِ، وهي النفس التي تكثر من لوم صاحبها، حتى صار هذا اللوم والمراجعة نهجاً دائباً في حياتها، والله تعالى لا يقسم إلا بعظيمٍ: "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" (القيامة: 2).

النفس اللوامة مؤشِّرُ يقظةٍ ومجاهدةٍ وارتقاءٍ في معراجِ الرُّوحِ، ومن أجلِ هذا خُلِق الإنسانُ، واللوم والمراجعة الدائبة هي طريقُ الانتصارِ على القلقِ الوجوديِّ ودخولِ جنَّةِ الطمأنينة.

يذكرُ القرآنُ أمثلةً لصفوة النَّاسِ من الرُّسلِ وهم يستغفرون ويؤوبون، فقد أثنى على داود وسليمان وأيوب بأنَّهم أوَّابون:

- "وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ" (ص: 24)

- "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" (30).

وقد أثنى الله تعالى على يونس عليه السلام وجعل استغفاره ومحاسبة نفسه سبباً في نجاته من الظلمات، ثمَّ جرَّد هذا المثل إلى قانونٍ عامٍّ، فحيثما راجع المؤمن نفسه وعلم ذنبه فإنَّ ذلك ينجيه: "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ" (الأنبياء: 87-88)

كان ذنب يونس أنَّه ذهب مغاضباً، والغضب طاقةٌ مظلمةٌ تجذب شبيهها فغرق في الظلمات، ثم حين راجع نفسه ونسب الظلم إلى نفسه فتبدَّدت طاقة الغضب النفسية فيه، وحلَّت محلَّها السكينة فأخرجه الله إلى النور ثانيةً.

مِمَّ يستغفر الإنسان؟

يقرِّرُ القرآنُ مبدأ مسئولية الإنسان عن صناعةِ قدرِه، فكلُّ ما يصيبُ الإنسانَ من مصائبَ فهو حصادُ ما كسبت يداه، سواءً في مستوى الفردِ أو المجموع: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (الشُّورى: 30).

ويؤكد القرآن أنَّ كلَّ تغيُّرٍ وزوال نعمةٍ يطرأ في حياة الإنسانِ فهو كاشفٌ لتغيُّرٍ حدث في نفسه، وبذلك لا يقرُّ القرآن مفهوم الصدفة: "ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال: 53).

يزكِّي القرآن منهج البحث عن الخلل من الداخل وليس من الخارج، ففي الهزيمةِ يوجه المؤمنين إلى مراجعة أنفسهم وليس إلى لوم عدوهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران: 165).

في هذه الآية يتساءل المؤمنون "أنَّى هذا" وهي مقولة مشحونة بحالة الإنكار، كيف أُصبنا؟ نحن لا نستحقُّ هذا المصاب.

يجد الإنسانُ راحته عادةً في أن يحمِّل الآخرين إخفاقاته ومصائبه وفي إعفاء نفسه من المسئولية، لكنَّ القرآن يحمل منهجاً انقلابياً في توجيه الإنسان إلى نفسِه بدل الانشغال بلوم الظروف الخارجيَّة، فالظروف الخارجيَّة محدودة التأثير حين يصلح الإنسان ما في نفسِه

تعبير "أنَّى هذا" يحمل معنى متجدِّداً نرى أمثلته دائماً في حالة الإنكار التي يمارسها الناس وبحثهم عن تحميل المسئوليَّة للآخرين بدل التفتيش عن الخلل داخل النفس. لكنَّ القرآن يوقظهم من حالة الإنكار ويوجِّههم إلى داخل نفوسهم: "قل هو من عند أنفسِكم".

تفيدنا كتب التفسير أنَّ هذه الآية تقصد غزوة أُحدٍ التي أصيب فيها المؤمنون بعد انتصارهم بغزوة بدرٍ، لكنَّ أسلوب القرآنِ التجريديَّ يخرجها من خصوصيَّة الحادثة إلى عموم السنَّة، لذلك جاءت الآيات بألفاظٍ عامَّةٍ، فحيثما أصيب الإنسان بمصيبةٍ عليه أن يراجع نفسه.

هذا المنهج ينقل الإنسان من دائرة لوم الظروف إلى مواجهة الذات والبحث في مواطن ضعفها، وهذه هي المساحة الفاعلة لأن الإنسان يملك تغيير نفسه ولا يملك تغيير الظروف الخارجة عن إرادته.

يجد الإنسانُ راحته عادةً في أن يحمِّل الآخرين إخفاقاته ومصائبه وفي إعفاء نفسه من المسئولية، لكنَّ القرآن يحمل منهجاً انقلابياً في توجيه الإنسان إلى نفسِه بدل الانشغال بلوم الظروف الخارجيَّة، فالظروف الخارجيَّة محدودة التأثير حين يصلح الإنسان ما في نفسِه:

- "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً".

- "إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً".

الاستغفار يجلب الرحمة ويقي من نزول العذاب، لأنَّ المستغفر الصادق بقلبه يتعرض إلى نفحات الرحمة، فهو يلتفت إلى نفسه ويراجعها ويقرُّ بضعفها، فتستدعي هذه الحال من إظهار عبوديته تنزل رحمة الربِّ عليه.

- "وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الأنفال: 33).

- "لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (النمل: 46).

ومؤشر الاستغفار الصادقِ أن يبدي المستغفر ندماً وتغييراً لمساره الخاطئ، فلا معنى للقول باللسان إن لم يرافقه صدقٌ في توجه القلب.

والاستغفار يحرِّرُ النفس من عقدة الاضطهادِ، فالإنسان إذا عاش مشحوناً بمشاعر الاضطهاد من الآخرين وأنَّه ضحيَّةٌ فإنَّه سيتشرب طاقةً سلبيَّةً مدمِّرةً وستكون علاقته مع الحياة علاقة عداءٍ وسخطٍ وكراهيةٍ وهو ما سيفتك به ويدمِّر قواه

الاستغفار ينقل الإنسان من دائرة التذمُّر والشكوى والعجزِ ولوم الآخرين إلى دائرة الفعل الإيجابيِّ، فالإنسان حين يفترض أنه منزّهٌ عن الخطأِ وأنَّ ما يصيبه في حياته فهو من تآمر الآخرين عليه أو من الشيطان أو من الأشرار أو هو قضاء الله وقدره، دون أن يتحمل أي مسئوليةٍ، فإنَّه بهذا الظنِّ يعفي نفسه من أيِّ فعلٍ ويكتفي بلوم الآخرين والانتظار السلبي لتغيُّرِ الأحوال. لكن إذا علم الإنسان أنَّ كل مصيبةً أصابته فهي من نفسه فإنَّه يعلم أنه وحده القادر على تغيير مسارِ حياته بتغيير ما بنفسه، فالتفت إلى نفسه بالمراجعة والتقويم.

والاستغفار يحرِّرُ النفس من عقدة الاضطهادِ، فالإنسان إذا عاش مشحوناً بمشاعر الاضطهاد من الآخرين وأنَّه ضحيَّةٌ فإنَّه سيتشرب طاقةً سلبيَّةً مدمِّرةً وستكون علاقته مع الحياة علاقة عداءٍ وسخطٍ وكراهيةٍ وهو ما سيفتك به ويدمِّر قواه.

في المقابل فإن الإنسان إذا آمنَ أنَّه هو من يتحمَّل مسئوليَّة أقدارِه، وأن ما يصيبه هو استحقاقٌ عادلٌ لما في نفسه، فإنَّ أغلال المظلومية والاضطهاديَّة ستنفكُّ عن عنقِه وسيقبل على الحياةِ بنشاطٍ وأملٍ وثقةٍ بقوَّتِه.

نسبة الإنسان الظلمَ إلى نفسِه هو منهج الرسل: "ظلمنا أنفسنا"، "إني كنت من الظالمين"، وهو يدخل النفس في حالة راحةٍ وسكينةٍ وسلامٍ، لأنَّه سيتوقف عن معاداةِ الناس والكونِ وسيعلم أن الكون لم يظلمه إنما يعطيه الجزاء العادل الموافق لحالتِه الداخلية وأفكاره ومشاعره، وبذلك سيحبُّ الحياة ولن يسخط عليها وسيعلم أنه وحده من يتحمل المسئولية فتهدأ نفسه ويسكن ويشعر بالتوافقِ والانسجامِ مع الحياة.

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)