بدت
مصر في صورة باذخة عبر عدة مشاهد مع قدوم شهر رمضان، الخميس، حيث ظهر رئيس النظام المصري
عبدالفتاح
السيسي، في عدد من الصور المبهرة، والمواكب المهيبة، والاستقبالات التاريخية،
خلال أيام معدودة.
تلك
الصور أثارت غضب الكثير من المصريين الذي عبروا عن تعجبهم من حالة الإسراف تلك برغم
ما يعانيه الشعب المصري من أزمات، ومع ما تقوم به الحكومة المصرية من إجراءات لبيع
الأصول الرابحة لإنقاذ الاقتصاد.
وكذلك
في ظل ما تطلبه القاهرة من قروض ومنح ومساعدات من مؤسسات التمويل الدولية، والدول الخليجية،
ومع ما ترصده الوكالات الاقتصادية الدولية عن حالة الاقتصاد المتداعي وحجم فوائد وأقساط
الديون المطلوب سدادها.
وتتمثل
تلك المشاهد في موكب "مهيب" للسيسي، جرى تصويره بالطائرات حيث جاب العاصمة
الإدارية الجديدة، مساء الأربعاء، لتفقد مبانيها ولافتتاح أكبر مساجد مصر وقارة أفريقيا
وثالث أكبر مسجد بالشرق الأوسط بعد الحرمين المكي والمدني، في حضور كامل لهيئات وجهات
ووزارات الدولة المصرية، ووسائل الإعلام وآلاف المدعوين.
وافتتح
السيسي "مركز مصر الثقافي الإسلامي"، و"مسجد مصر الكبير"، بالعاصمة
الإدارية الجديدة فجر الخميس، أول أيام شهر رمضان، فيما بدت الأبنية كتحفة فنية ومعمارية
حيث استخدم فيها أغلى وأجود أنواع الرخام للحوائط والأرضيات، بلغت قيمتها نحو 800 مليون
جنيه (26 مليون دولار).
والمركز
الثقافي الإسلامي، ومنه المسجد، بنيا على مساحة مرتفعة بنحو 24 مترا تبلغ 116 فدانا،
ويتسعا لـ130 ألف مصل، فيما يبلغ ارتفاع مئذنة المسجد 140 مترا، ويحيطهما سور 1200
متر مسطح، ويحتوي على 160 محلا تجاريا.
المسجد
الذي بنته شركة "المقاولون العرب" الحكومية بإشراف "الهيئة الهندسية
للقوات المسلحة"، حصل على 3 شهادات عالمية من موسوعة "غينس"، أولها
شهادة "أكبر منبر" في العالم الإسلامي، والمصنوع يدويا بـ"التعشيق"،
من أجود أنواع الأخشاب، بارتفاع بلغ 16 مترا و45 سم.
وحصلت
النجفة الموجودة في المسجد والمكونة من 4 أدوار على شهادتين من "غينس"، الأولى
كـ"أكبر نجفة" بالعالم لقطرها البالغ 22 مترا، والتانية كـ"أثقل وزن
نجفة" في العالم والتي تصل إلى 50 طنا.
وعلى
طريقة ما يجري من تقديم أغان جديدة لمطربين مصريين في جميع الاحتفالات التي يشارك بها
السيسي؛ شهدت افتتاح مركز مصر الثقافي الإسلامي، احتفالا كبيرا قدم خلاله المغني هشام
عباس، أنشودة "أسماء الله الحسنى"، مع ابتهالات دينية للمنشدين أحمد العمري،
ومصطفى عاطف.
وفي
مشهد ثان وعلى غرار تقديم أكبر مائدة إفطار في رمضان بالعاصمة الإدارية حزيران/ يونيو
2019، حضر السيسي، ومعه كبار رجال الدولة، أول سحور في العاصمة الإدارية الجديدة، فجر
الخميس، بدعوى التسحر مع العاملين في المدينة.
وفي
مشهد ثالث، عقد السيسي، مبادرة "كتف في كتف" في استاد القاهرة الدولي وسط
حضور آلاف المصريين احتفالا بتوزيع 6 ملايين كرتونة غذائية على 20 مليون مواطن، وسط
احتفالات وأغاني استمرت على مدار يوم الجمعة الماضي.
وفي
تعليقهم على المشهد الأخير، رأى البعض أنه "بهذه الإمكانيات الضخمة التي وفرتها
الدولة لتوزيع الكراتين وأسطول سيارات النقل وعشرات الآلاف من المتطوعين لتجهيز وتوزيع
الكراتين، كان يمكن أن تدعم الدولة إقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة تحول المجتمع إلى خلية
عمل منتجة، بدلا من تركهم عالة يتسولون قوتهم".
وانتقد
السياسي والبرلماني المصري السابق، الدكتور ثروت نافع، تلك المشاهد مجتمعة، قائلا:
"يحتفل بالفقر، وبعدها بيومين يحتفل بالبذخ الذي أدى إلى هذا الفقر"، متهكما
بقوله: "عبقري تخطيط".
رئيس
حزب الخضر المصري المهندس محمد عوض، انتقد مشهد
البذخ في ظل الحالة الاقتصادية
المزرية، موجها تساؤله إلى من سماهم أهل الفتوى الشرعية، قائلا: "هل بناء مسجد بهذا
الشكل والطراز والتكاليف والمساحات حرام شرعا أم حلال؟".
ووصف
ما شاهده خلال افتتاح رجالات الدولة له، بأنه "مسجد على أعلى مستوى في التصميم
والتأسيس والإمكانيات المتاحة، به آيات بالحفر على جدران رخامية، وأرضيات من أرقى أنواع
الرخام، وإضاءة مبهرة، وأثاث فريد، ومداخل ومخارج للمسجد تبدو أرقى من تلك التي في
أثرى وأجمل القصور الرئاسية".
وتهكم مراقبون ومتخصصون في الاقتصاد على تدشين السيسي، أثقل نجفة وأكبر منبر، ودخول مسجد مصر الكبير موسوعة غينس للأرقام القياسية، بقولهم: "بذلك أصبحت قضية ارتفاع الأسعار، وشح الدولار محلولة".
وعبر تشبيه غاية في القسوة، وصف السياسي مجدي حمدان، مشهد البذخ وفي مقابله مشهد الجوع والفقر، منتقدا الحالة التي عليها النظام المصري.
"رسالة
للاستثمار الأجنبي"
وفي
رؤيته للأهمية الاقتصادية لهذا الإنفاق الباذخ، قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد النبي
عبد المطلب: "يعتقد البعض أن هذا الإنفاق هو رسالة للاستثمار الأجنبي بأن مصر
لديها سياسات اقتصادية توسعية، وأن لديها مشروعات واستثمارات دائمة ومستمرة".
وأضاف
في حديثه لـ"عربي21"، أن هذه الرسالة بحسب رؤيتهم "تُحفز الاستثمار
الخارجي على التدفق إلى مصر للاستفادة من الإنفاق الاستثماري التي تنفقه الحكومة المصرية".
وعن ما
يمثله هذا الإنفاق من إهدارا للمال العام في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، أكد أن
"هذا الإنفاق بالتأكيد هو إنفاق ترفي مبالغ فيه"، لافتا إلى أنه "يمثل
ضغوطا كبيرة على الموارد الاقتصادية المصرية".
وقال
الخبير المصري: "أعتقد أن الهدف منه هو هدف بعيد عن الرشد الاقتصادي".
وفي
رده على التساؤل: "هل يعطي هذا الإنفاق صورة سلبية عن الاقتصاد المصري أمام الجهات
الدولية المانحة ووكالات التصنيف والائتمان؟ يعتقد عبد المطلب، أن "إجابة هذا
السؤال ستتوقف على رؤية الجهات المانحة، ومدى توافقها مع تعهدات مصر أمامها".
وأضاف:
"فقد تستحسن هذه المؤسسات هذا الإنفاق باعتباره أحد عوامل جذب الاستثمار الأجنبي
المباشر".
"على
الجانب الآخر"
ذلك
الإنفاق الباذخ يأتي وفق مراقبين، في توقيت يفرض فيه صندوق النقد الدولي شروطا قاسية
وتوجيهات صعبة على القاهرة مقابل حصولها على قرض بقيمة 3 مليارات دولار على مدار
46 شهرا أقره الصندوق نهاية العام الماضي، بجانب تمويل آخر من صندوق الطوارئ التابع
لصندوق النقد، بقيمة مليار دولار.
وهو
ما سيتبعه تنفيذ تعليمات الصندوق والتي من بينها تخفيف قبضة الحكومة على الاقتصاد وتخارجها
من الكثير من القطاعات، ما تبعه إعلان الحكومة المصرية في شباط/ فبراير الماضي، طرح
32 شركة حكومية بالبورصة وأمام مستثمرين استراتيجيين.
ويأتي ذلك الإنفاق الباذخ في ظل تراجع التمويل الخليجي لنظام السيسي، الذي منحه الكثير
من الدعم والمنح والودائع والاستثمارات منذ الانقلاب العسكري منتصف 2013.
بل إن
المشاهد السابقة تتزامن بشكل لافت مع إعلان وزارة التعاون الخارجي المصرية عن تمويل
دولي جديد لمصر من مجموعة البنك الدولي بقيمة 7 مليارات دولار على مدار 4 سنوات.
اظهار أخبار متعلقة
التمويل
الذي جرى اعتماده في واشنطن الثلاثاء الماضي، ويتم منحه للقاهرة خلال سنوات 2023 وحتى
2027، بواقع مليار دولار سنويا من "البنك الدولي للإنشاء والتعمير"، وملياري
دولار موجهة للقطاع الخاص من "مؤسسة التمويل الدولية"، بجانب ضمانات من
"الوكالة الدولية لضمان الاستثمار".
وفي
تقدير يعود لمنتصف العام الماضي، فقد بلغت ديون مصر نحو 157.8 مليار دولار، وهو المبلغ
الذي يقابله ديون داخلية بأكثر من 255 مليار دولار وفق بعض التقديرات لعام 2021.
وبحسب
توقعات موقع "Trading Economics"، فإن دين مصر
العام مرشح للتصاعد بشكل مستمر وأنه سيزيد بنحو 217.7 مليار دولار أمريكي، ليصل حجم
الدين المصري عام 2027 إلى 506.58 مليار دولار أمريكي.
ووفق
رصد لموقع "إندبندنت عربية"، فإن هناك 26.4 مليار دولار ديون قصيرة الأجل
يتعين على القاهرة سدادها في عامين، بجانب ديون متوسطة وطويلة الأجل تجاوزت 72.4 مليار
دولار كانت مستحقة من النصف الثاني للعام الماضي، وحتى نهاية 2025.
تلك
الأقساط مستحق منها 9.33 مليار دولار في النصف الأول من العام الجاري، و8.32 مليار
دولار في النصف الثاني، فيما يجب سداد 10.9 مليار دولار في النصف الأول من العام المقبل،
و13.3 مليار دولار في النصف الثاني من العام.
وفي
مقابل تلك المبالغ المستحقة من خدمة الدين، فإن الجنيه المصري يتعرض لأسوأ موجة انخفاض
تاريخية مقابل العملات الأجنبية حيث تراجع خلال نحو عام من 15.60 جنيها مقابل الدولار
إلى نحو 31 جنيها في الأسبوع الأخير من آذار/ مارس الجاري.
ويعاني
المصريون، من ارتفاعات قياسية وتاريخية في جميع أسعار السلع والخدمات، حتى أن البنك
المركزي المصري، كشف في آخر تقاريره 10 آذار/ مارس الجاري، أن المعدل السنوي للتضخم
الأساسي سجل 40.3 بالمئة في شباط/فبراير الماضي.
"إيهام
العالم"
وفي
رؤية إدارية حول أولويات الإنفاق الحكومي، قال الخبير في الإدارة والتخطيط الدكتور
هاني سليمان: "يبدو أن ما يحدث في قلب مصر ويشعر به ويعاني منه المصريون، لا يبدو
على سطحها، أو هذا ما يريد السيسي ونظامه أن يوهموا العالم به".
وفي
حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "فبرغم المعاناة القاسية التي يعيشها المصريون
جميعا على اختلاف طبقاتهم، تبدو الصورة التي يريد السيسي تصديرها للعالم، مخالفة بل
متناقضة"، واصفا ما يحدث بأنه "مظاهر ساذجة".
وقال
إن "جميعها محاولات يقوم بها السيسي لنفي ما يحدث في قلب مصر من معاناة شعبية
قاهرة، ومحاولة منه لتجميل الشكل الخارجي لحكمه".
"إيهام
المصريين"
وتابع
سليمان: "هي محاولة منه لإيهام المصريين من جديد بإنجازاته ومعجزاته التي طالما
تفاخر بها، بل هي محاولة ساذجة منه لإقناعهم أن يتناسوا معاناتهم المعيشية اليومية"، وأن
"يتفاخروا بأكبر مركز ثقافي إسلامي، والذي كُتِبَ القرآن الكريم على جدرانه بماء
الذهب، وبمسجد مصر الكبير الذي يحتوي على أكبر وأثقل نجفة وأكبر منبر في العالم".
وأضاف:
"في ذات الوقت يحاول السيسي أن يكسب رضا المصريين بعدما تدنت شعبيته إلى أقصى
درجة، ما ينذر بالخطر الشديد عليه وعلى نظامه، وذلك بأن يستدرج المصريين البسطاء من
نقطة ضعفهم، وأن يمسكهم من (أيديهم اللي بتوجعهم)".
وأشار
إلى "ارتفاع أسعار الطعام والغذاء بمختلف أنواعه، وأنه يعدهم أنه سيقوم بتوزيع
ملايين كراتين الطعام عليهم من خلال مبادرته المزعومة المسماة (كتف في كتف)".
اظهار أخبار متعلقة
"إيهام
الخليج"
وقال:
"ربما يهدف السيسي أيضا إلى توصيل رسالة إلى العالم الخارجي، وبالذات إلى دول
الخليج التي ساندته من قبل؛ لكنها الآن تطالبه بإصلاحات سياسية واقتصادية جذرية لكي
تواصل دعمها له ولنظامه".
وأوضح
أن "ذلك عبر إقناعهم بأن حكمه ثابت ومستقر، وهو يواصل البناء والتشييد، وخاصة فيما
يتعلق بالنواحي الدينية، مثل المسجد الكبير والمركز الإسلامي الجديد، ويؤيده الشعب
كله في هذا".
"انفصال
خطير"
ويرى
الخبير المصري في الإدارة والتخطيط، أنه "من السهل معرفة ردود فعل المصريين العاديين
البسطاء على كل تلك المبادرات والمشروعات التي يقوم بها السيسي، بمتابعة وسائل التواصل
الاجتماعي".
وألمح
إلى أن "المصريين كلهم تقريبا أجمعوا على السخرية من تلك الإنجازات المزعومة،
والمقارنة بين حالتهم المعيشية الصعبة مقابل مشروعات السيسي، المكلفة جدا والتي تقدر
بالمليارات، وفي نفس الوقت لا تساعد المصريين في اجتياز المحن الصعبة التي يعيشونها،
بل على العكس تساهم في زيادتها واستفحالها".
ولفت
إلى أن المصريين يتساءلون: "ألم يكن من الأولى أن تُصرف تلك المليارات، والتي
جاء معظمها عن طريق القروض، في بناء مدارس ومستشفيات ومصانع ووسائل إنتاج متنوعة، أو
ضخها مباشرة في الاقتصاد المصري لتساهم في تقليل الأسعار المتصاعدة بجنون، ومساعدة
ملايين المصريين مساعدة حقيقية وفعالة؟".
وأكد
سليمان، أن "الانفصال التام الذي نراه بين الشعب وحكامه أمر أصبح في منتهى الخطورة،
وينذر بعواقب وخيمة مثل الانتفاضات الشعبية التي لا تبقي ولا تذر، والتي تهدد سلامة
البلاد وأمن الشعب، والتي لن تُقابل من النظام إلا بالقمع الشديد كالمعتاد".
وختم
بالقول: "كل هذا يؤدي إلى مزيد من الإقصاء واتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم،
وبالتالي فإنه ينذر أو ينبئ بقرب سقوط هذا النظام الحاكم".