قضايا وآراء

تبرعات بقرار جمهوري.. ضعف الطالب والمطلوب

قطب العربي
مساعدات بطريقة استعراضية ومهينة- الرئاسة المصرية
مساعدات بطريقة استعراضية ومهينة- الرئاسة المصرية
تحظى أعمال الخير والجهود الأهلية لمساعدة الفقراء والمحتاجين وتخفيف أعبائهم بكل تقدير شعبي ورسمي، ويسهم العمل الخيري في مصر تحديدا بدور كبير في مواجهة الفقر والتخلف، كما يعوض العجز الحكومي الكبير في تقديم الخدمات اللازمة للطبقات البسيطة. وهو يفعل ذلك بوازع ديني، وكل ما يحتاجه هو تيسير عمله من خلال منظومة قوانين وسياسات ديمقراطية تشجعه وتزيل كل العوائق أمامه.

ما شهدناه في استاد القاهرة قبل أيام من حشد للفقراء في مكان عام لتوزيع مساعدات غذائية عليهم من جمعيات خيرية تم حشدها مع تبرعاتها بقرار رئاسي، مع حشد كاميرات التصوير لنقل مشاهد الفقر والذل وحتى بكاء بعض السيدات العفيفات اللاتي اضطررن للذهاب إلى استاد القاهرة للفوز بإحدى الكراتين (صندوق مواد غذائية بسيطة لا تكفي أسرة بسيطة لأسبوعين) من أولئك المحسنين؛ هو مظهر مهين يختلف جذريا مع طبيعة العمل الخيري الذي يحفظ للناس كرامتهم، والذي يقدم بيمينه ما لا تعلمه شماله.

مظهر مهين يختلف جذريا مع طبيعة العمل الخيري الذي يحفظ للناس كرامتهم، والذي يقدم بيمينه ما لا تعلمه شماله
حين أراد السيسي أن ينتقص من ثورة يناير، ويتهمها بأنها كانت السبب في أزمة سد النهضة، زعم أن مصر "كشفت ظهرها وعرت (كشفت) كتفها" أي أنها أصبحت عارية ومستباحة، والحقيقة أن المشهد الذي نقلته الكاميرات من استاد القاهرة هو تعرية الظهر والكتف الحقيقي، حيث التفاخر بالفقر الذي تسبب فيه النظام بسياساته، وبخلل أولوياته التنموية، والاهتمام بالمشروعات المظهرية وتجاهل مشروعات التنمية الحقيقية التي تنعكس على حياة المواطنين وتخفف معاناتهم.

تعمل في مصر حوالي 50 ألف جمعية أهلية، يبلغ حجم نشاطها الخيري حوالي 100 مليار جنيه مصري (3 مليارات دولار تقريبا)، وقد تدخلت الأجهزة الرسمية قبل عام لتشكيل ما سمي بالتحالف الوطني للعمل الأهلي والتنموي، وضم 30 كيانا أهليا مركزيا، بالإضافة لحزب السلطة "مستقبل وطن"، وبعض قادته من رجال الأعمال. وقد أطلق هذا التحالف مبادرة "كتف بكتف" والتي تستهدف تقديم 4-6 ملايين صندوق (كرتونة) مواد غذائية للفقراء بمناسبة شهر رمضان الكريم في كل محافظات مصر، وهو ما وصفه الإعلام المصري بـ"أكبر حدث وأضخم مبادرة حماية اجتماعية في مصر والعالم العربي!!"، وقد شارك المشير السيسي وكبار قادة الدولة في حفل تدشين المبادرة (17 آذار/ مارس)، بل إن السيسي عبّر عن اعتزازه وفخره بما وصفه بانتصار جديد!!

قد يعتقد البعض أن رقم 6 ملايين أو حتى 4 ملايين رقم ضخم يستحق هذه البروباجاندا، والحقيقة أنه رقم متواضع، وليس جديدا، إذ لا ينسى المصريون أن جهودا خيرية أهلية لا علاقة لها بالسلطة، ولم تتلق تعليمات منها؛ قادتها جماعة الإخوان المسلمين والجمعية الشرعية وجمعيات أخرى، كانت توزع أرقاما أكبر من ذلك خلال السنوات الماضية، لكن السلطات المصرية عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 أغلقت 1055 جمعية بزعم ارتباطها بجماعة الإخوان، وهذه الجمعيات لها مئات الفروع والمراكز الخدمية (مثلا الجمعية الشرعية تضم وحدها 1100 فرع، وتكفل حوالي 700 ألف يتيم، وأكثر من 300 ألف أرملة ومطلقة، كما أن جمعية أنصار السنة لديها فروع في 18 محافظة، ولديها 30 مركزا طبيّا، أما الجمعية الطبية الإسلامية، فقد عالجت مليونين و200 ألف مريض خلال عام 2012 وحده). ورغم أن كلا من الجمعية الشرعية وأنصار السنة تمكنتا من استرداد نشاطيهما عبر فروعهما المختلفةـ إلا أنهما ظلتا تحت هيمنة أمنية كاملة، فيما بقيت الجمعيات الأخرى التي صنفت بتبعيتها للإخوان تحت المصادرة.
لم يقتصر الأمر على الملاحقة الأمنية للعديد من الجمعيات الخيرية عقب 2013، بل تعرض العمل الخيري عموما لهجمة تشكيك وتشويه إعلامي، بتهمة دعم الإرهاب، وغياب الشفافية، والتلاعب في التبرعات، وهو ما تسبب في تراجع الكثير من أهل الخير عن تقديم التبرعات خوفا أن تطالهم الملاحقات في ظل أجواء مجنونة

لم يقتصر الأمر على الملاحقة الأمنية للعديد من الجمعيات الخيرية عقب 2013، بل تعرض العمل الخيري عموما لهجمة تشكيك وتشويه إعلامي، بتهمة دعم الإرهاب، وغياب الشفافية، والتلاعب في التبرعات، وهو ما تسبب في تراجع الكثير من أهل الخير عن تقديم التبرعات خوفا أن تطالهم الملاحقات في ظل أجواء مجنونة، صحيح أن بعض الجمعيات ترتكب مخالفات، وتستقطع مبالغ كبيرة من التبرعات كرواتب لموظفيها، لكن هذا الأمر استثناء من القاعدة، حيث تحافظ غالبية الجمعيات على سمعتها التي هي رأس مالها لدى المتبرعين والمستحقين.

فارق كبير بين الطريقة التي تقدم بها مبادرة "كتف بكتف" -التي يرعاها السيسي- مساعداتها للفقراء بطريقة استعراضية مهينة لهم، وبين الطريقة التي كان يستخدمها الإخوان والجمعيات الخيرية الأخرى من قبل، حيث كانوا يحتفظون بكشوف للفقراء والمحتاجين، في نطاقهم الجغرافي، ويقومون بإيصال تلك المساعدات لهم خفية في بيوتهم. وليس صحيحا أن الإخوان كانوا يستهدفون بتلك المساعدات كسب أصوات أولئك الفقراء، حيث أن الكثيرين منهم لم يكونوا يمتلكون بطاقات انتخابية بالأساس، لكن المؤكد أن تلك الأنشطة التي كان يتجاوب معها أيضا الكثير من الموسرين كانت محل تقدير من المجتمع عموما، وهو ما انعكس تصويتا لصالح مرشحي الإخوان خصوصا في المناطق الشعبية والفقيرة.

لم تكن مصر بحاجة لكشف ظهرها أو تعرية كتفها في استاد القاهرة، ولكنها كانت بحاجة إلى الستر على أبنائها البسطاء ضحايا السياسات الفاشلة والديون الباهظة والمشاريع الاستعراضية غير ذات الجدوى والأولوية، كان الستر قائما من قبل حين وجد أهل الخير مناخا مناسبا وجمعيات خيرية موثوقة للتبرع لها، وحين كانت تلك الجمعيات حريصة على ستر المستحقين للمساعدات، وما أحوج المصريين اليوم لفضيلة الستر خاصة مع تصاعد أعداد الفقراء وفقا للتقارير المحلية والدولية وخاصة بعد تعويم الجنيه مرة وراء مرة.

twitter.com/kotbelaraby
التعليقات (0)