لا خلاف على أن إسرائيل دولة ظالمة متغطرسة تمارس الفصل العنصري في أبشع صوره. ولا خلاف على أن ديمقراطيتها محدودة ومشلولة تشمل اليهود فقط، وتتوقف لحظة ما يتعلق الأمر بمواطنيها العرب أو بفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، بل وحتى بسكان العالم كله.
المحكمة التي انتفض مئات الآلاف من الإسرائيليين لحمايتها من حكومة بنيامين نتنياهو، مجرد صورة لعنصرية الدولة ككل. فهي ذاتها التي تشرّع سحق الفلسطينيين وتدمير بيوتهم، وهي التي تكرّس قمعهم وتحمي جلاديهم المدنيين والعسكريين.
هؤلاء الجنود الذين أرعبهم المساس بالمحكمة العليا هم ذاتهم الذين يُطلقون النار على الفتيان الفلسطينيين يوميا بنية القتل، وهم الذين يقتحمون الأحياء والبيوت ويروّعون الأهالي.
هؤلاء الطيارون الحربيون الذين انخرطوا في التظاهرات دون أن يفكروا مرتين هم ذاتهم الذين يطلقون الصواريخ والقذائف الحارقة على المباني المدنية المأهولة في غزة، ويقصفون سوريا وأيّ موقع في الجوار تأمرهم قيادتهم بقصفه.
هؤلاء الاستخباراتيون من ضباط وعملاء الذين تظاهروا مع المتظاهرين هم ذاتهم الذين يتجسسون على كل الناس ويلاحقون القيادات الفلسطينيين محليا وعبر العالم لاغتيالهم.
شركات الإنترنت والتكنولوجيا الدقيقة التي ما فتئت تحذّر من انهيار الديمقراطية الإسرائيلية، تعمل على مدار الساعة على نشر الخراب في العالم بتسويق أدوات التجسس لدول وأنظمة حكم تتفنن في الاستبداد وسحق شعوبها.
لكن عندما تعلّق الأمر بالدولة الإسرائيلية، هبَّ كل هؤلاء الناس لنصرة المؤسسات التي تحميهم، بالذات المحكمة العليا وجهاز القضاء، وتضمن لهم حياة كريمة وحرَّة.
الذين انتفضوا في إسرائيل واحتلوا الشوارع طيلة أسابيع، لم يفعلوا للمطالبة بدولة ديمقراطية. لقد خرجوا عن بكرة أبيهم للمطالبة بحكومة أفضل فقط. والفرق بين المطلبَين واضح وشاسع. الفلسطينيون وحياتهم وحقوقهم لا تعنيهم في شيء. ومظاهراتهم، في المقابل، لا تعني للفلسطينيين شيئا.
ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن تلك التظاهرات الضخمة، التي لم تُرَق فيها قطرة دم واحدة، مثيرة للإعجاب والاحترام. ولا يمكن إنكار أن موقف المؤسسة العسكرية مثير للإعجاب هو الآخر، وأن نتنياهو ما كان ليتراجع في اللحظة المناسبة لولا انحياز المؤسسة العسكرية بفروعها ومكوناتها المختلفة للمتظاهرين.
لقد انخرطت المؤسسة الأمنية/العسكرية في الأزمة السياسية الحالية، لكن بنضج كبير وضع نصب عينيه مصلحة الدولة وديمومتها وديمقراطيتها.
ساهم المثقفون والإعلاميون، بالفعل وبالقول أو بالصمت، في تكريس الاعتقاد الزائف بأن الجيش أدرى من الجميع بمصلحة الوطن، وأقدر من الكل على حمايتها. لهذا تتجه أنظار العرب بسرعة إلى وزارات الدفاع ومباني قيادات الأركان والمخابرات بمجرد أن تحصل ضائقة سياسية.
لو راعت هذه المؤسسة مصلحتها فقط، أو انحازت لفئة من الناس أو للحكومة، لكان الموقف اليوم في إسرائيل مختلفا تماما.
لننظر الآن إلى الجيوش العربية ومقاربتها للأزمات الداخلية، وما أكثرها.
هذه الجيوش فرضت نفسها في السياسة فرضا، بل أصبحت هي السياسة، وهذا الأمر جعلها باستمرار جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل. الجيوش العربية فرضت على المجتمع والسياسيين واجب تقديسها، ولم تكتسب هذا التقديس احتراما وإعجابا.
مع مرور الوقت تكرّس في أذهان الناس، بمن فيهم الحكام وأصحاب القرار السياسي، نوع من الاعتقاد يقوم على أنهم صغار من دون
الجيش، لا يستطيعون التصرف في مصائرهم من دونه.
الوضع متشابه بدرجات في كثير من
الدول العربية، خصوصا الجمهوريات. وآخر حالة تتفاعل اليوم في السودان حيث يلعب الجنرال عبد الفتاح البرهان دور العرّاب الخائف على مصلحة وطن سيُضيّعه الآخرون لو يتركه بين أيديهم.
حالة البرهان وهو يلعب دور القائد الزاهد الذي فرضت عليه الظروف التدخل في السياسة لإنقاذ
الوطن من عبث المدنيين ليست استثناءً، بل موجودة في أغلب البلدان العربية باستثناء دول الخليج.
لقد ساهم المثقفون والإعلاميون، بالفعل وبالقول أو بالصمت، في تكريس الاعتقاد الزائف بأن الجيش أدرى من الجميع بمصلحة الوطن، وأقدر من الكل على حمايتها. لهذا تتجه أنظار العرب بسرعة إلى وزارات الدفاع ومباني قيادات الأركان والمخابرات بمجرد أن تحصل ضائقة سياسية.
وصدّق قادة الجيوش هذا الاعتقاد فسقطوا في فخّ خطاب «نحن» و«أنتم» عند مخاطبة المجتمع، مع تلميح دائم إلى أن «نحن» أفضل من «أنتم» على كل صعيد وفي كل عمل.
لا غرابة بعد هذا ألَّا شيء يتحرك عند العرب من دون رضا الجيوش. ولا أحد يجرؤ على محاسبة قادتها أو الاستفسار عن طرق إدارتها وموازناتها ونفقاتها وغير ذلك. المشكلة أن هذه الجيوش خسرت الحروب وفشلت في بناء الأوطان وبرعت فقط في الانقلابات وسرقة الانتخابات وفرض حالات الطوارئ في مجتمعاتها.
في إسرائيل يجري تقديس المؤسسة العسكرية لكن دون منحها شيكا على بياض لممارسة السياسة. ورغم أن التقديس واجب مستحق بالنظر للحروب التي خاضها الجيش والمؤسسة الأمنية وفازا بها والإنجازات العملية والعلمية التي حققاها، إلا أن هذا التقديس لا يمنح هاتين المؤسستين حق الهيمنة على المجتمع. والقاعدة أن الجيش فوق الرؤوس طالما بقي تحت وصاية وقيادة المكوّن السياسي ممثلا في رئيس الحكومة، وطالما كان في خدمة الدولة والشعب الإسرائيلييَن.
ولن تتأثر هذه القدسية إذا ما تضمَّن عمل المؤسسة العسكرية الدوس على الآخرين وقتلهم إذا كان ذلك تحت غطاء حماية الدولة، كما هو الحال مع سكان غزة والضفة. بالعكس، قد يزيد التقديس والتبجيل.
لهذا تفوقت إسرائيل وغرق جوارها في حفرة سحيقة من الاستبداد والتخلف.
لو أن الجيوش العربية حققت لشعوبها ثلث ما حقق الجيش الإسرائيلي لشعبه، لحَقَّ لها أن تطلب التقديس ولاستحقته. ولو أنها انحازت لشعوبها في الأزمات الداخلية، كما في إسرائيل حاليا، وامتنعت عن سرقة الثورات والانتخابات، لأصبح واجبا على الناس عبادتها.
لكن لا شيء من هذا موجود، ورغم ذلك تطلب هذه الجيوش ما ليس حقها، وتفرض على الناس تصديق أنها تستحقه.