مقالات مختارة

المغزى من اقتتال العسكر في السودان

جلبير الأشقر
التوتر يتصاعد بين طرفي الصراع في السودان- سونا
التوتر يتصاعد بين طرفي الصراع في السودان- سونا
ليس المشهد السوداني الراهن بالغريب عن تقاليد المنطقة العربية والبلدان الأفريقية جنوبي الصحراء، بل يكاد يكون من المألوف لدينا أن نشاهد اقتتال جماعات مسلحة تتصارع على السيطرة على مقاليد الحكم والثروات في بلدانها. كما أن سيناريو الصدام بين الجيش «النظامي» وقوة عسكرية موازية له ومنافِسة، ليس بالغريف علينا، بل يكاد يكون معتادا. وتقضي القاعدة التاريخية بأن ازدواجية السلطة، متمثلة بوجود قوتين مسلّحتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى على أرض بلد واحد، لا يمكنها أن تكون أكثر من حالة انتقالية يتحتّم حسمها لصالح أحد الطرفين في نهاية المطاف، مهما طال الانتقال الذي تتحكّم موازين القوى بمدّته.

وبالطبع، ثمة فارق أساسي بين أن يكون الطرفان المسلّحان وليديّ مشروع سياسي واحد، وأن يكونا منبثقين عن مشروعين سياسيين متعارضين. فعلى سبيل المثال، حيث جسّدت المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان مشروعا سياسيا متعارضا مع الحكم القائم في البلدين، نجد تعدّدا لقوى مسلّحة مستقلة الواحدة عن الأخرى، في دائرة المشروع السياسي الأصلي الواحد في مناطق سيطرة التحالف بين نظام آل الأسد والقوات الخاضعة لإيران وروسيا في سوريا. فبينما يتحتّم الصدام مبكّرا في الحالة الأولى، يتأجل في الثانية؛ ما دامت الأطراف المنزوية في مصارعة عدوّ مشترك، ترى أن هذا العدوّ لا زال يشكّل خطرا عليها جميعا، بما يفرض عليها مواصلة التعايش والتعاون.

وتندرج حالة السودان في الصنف الثاني؛ إذ إن «قوات الدعم السريع» نشأت عن مليشيات «الجنجويد» التي عملت كحليفة للقوات المسلّحة السودانية النظامية في حرب دارفور، حتى مأسستها بقرار من عمر البشير قبل ما يناهز عشر سنوات. فهي وليدة المشروع السياسي الرجعي الاستبدادي ذاته الذي كانت القوات المسلّحة عموده الفقري، وقد تطوّرت بصورة قوات الظلّ بالنسبة لهذه الأخيرة، تسيطر على إمبراطورية اقتصادية، يغلب عليها طابع المافيا بمحاذاة الإمبراطورية الاقتصادية الرسمية التي يملكها الجيش السوداني أسوة بنظيره المصري.

هذا، وقد ارتدّت «قوات الدعم السريع» بزعامة محمد حمدان دقلو على البشير وتخلّت عنه، على غرار الجيش النظامي، بعدما تأكد أن رصيده السياسي نضب؛ إثر اندلاع الثورة السودانية في نهاية عام 2018، فشاركت بالإطاحة به إلى جانب الجيش في مثل هذا الشهر قبل أربع سنوات. والحقيقة أن الطرفين رأيا أن يوحّدا موقفهما في وجه تصاعد المدّ الثوري السوداني وتجذّره، فأوكل الجيش إلى «قوات الدعم السريع» الدور الرئيسي في محاولة القضاء العنيف على اعتصام القيادة العامة بعد الإطاحة بالبشير بأقل من شهرين؛ إدراكا منه أن قوة من المرتزقة القبليين أقل عرضة للتعاطف مع الجماهير الثورية مما هم الجنود وضباط الصف في القوات النظامية.

وطوال المرحلة اللاحقة الناجمة عن مساومة صيف 2019 التي قَبِل بها العسكر على امتعاض مع أنهم حفظوا بها مصالحهم الرئيسية، ظلّ التحالف العسكري قائما في مواجهة ائتلاف قوى الحرية والتغيير، الذي كان محتفظا بزخمه، ومستفيدا من الضغط الذي مارسته القوى الشعبية الرافضة للمساومة، وبعضها منسلخ من الائتلاف عينه. وبعد ممارسة القوات المسلّحة «استراتيجية التوتّر» للحدّ من قدرة الائتلاف على فرض الإصلاحات عليها، ومن ثمّ نجاحها في شقّ صفوفه من خلال انشقاق كتلة «التوافق الوطني» («الكتلة الديمقراطية» لاحقا)، نفّذت انقلابها الثاني في خريف 2021، فأطاحت باتفاق المساومة بمجمله؛ ظنّا منها أنها باتت قادرة على التحكّم بالبلاد، بيد أنها أخطأت الحساب وتضافر في وجهها ضغط الحركة الشعبية، التي عادت قوى الحرية والتغيير إلى المشاركة بها، والضغط الدولي السياسي كما والاقتصادي، والثاني هو الذي كان الأخطر عليها.

إزاء هذا الإخفاق، رأى دقلو أن يتبرّأ من القوات النظامية التي يتزعّمها الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ويقرّ بفشل الانقلاب حفظاً لمصالحه. وعلى هذه الخلفية، اضطرّ قادة الجيش النظامي إلى العودة إلى طاولة التفاوض حول تجديد المساومة بوساطة دولية، وانتهى بهم الأمر مرة أخرى إلى القبول ممتعضين باتفاق جديد مع قوى الحرّية والتغيير، كرّس إخفاقهم؛ إذ جاء أسوأ لهم مما كان اتفاق عام 2019، حتى ولو ضمن العسكر لأنفسهم حصة الأسد في الحالتين. وقد أدرك البرهان وزملاؤه العسكريون أن المعركة بينهم، والقوى السياسية المطالبة بالحكم المدني ستكون طويلة ومعقّدة، لا يجوز أن يُترك فيها مجال لشق صفوف القوات المسلّحة مرة ثانية كما فعل دقلو. فأرادوا لجم قوات الدعم السريع شبه العسكرية نهائيا قبل إبرام الاتفاق الجديد والشروع بتنفيذه، وهم ينوون الانقضاض عليه مجدّدا، عندما تسنح الظروف بصورة أفضل لهم مما كان في خريف 2021.

وكانت النتيجة انفجار المعارك بين الطرفين يوم السبت الماضي، بعد استعصاء الاتفاق بينهما على التدرّج نحو انضواء  بصورة كاملة تحت لواء القوات النظامية. هذا، وقد قضت المعارك بعنفها وشراستها على أي احتمال لتعايش الطرفين من جديد، في إطار الدولة السودانية الواحدة والنظام السياسي الأوحد، بحيث يصعب تصوّر توقفّ القتال بلا قضاء أحد الطرفين على الآخر، إلا إذا تجسّدت ازدواجية السلطة بصورة تقاسم جغرافي لمناطق السيطرة.

وتنذر الحالتان بعواقب وخيمة لمستقبل السودان؛ فلو تطوّر الاقتتال الراهن إلى حالة حرب أهلية معمّمة، ستكون النتيجة كارثية إنسانيا وساحقة سياسيا للآفاق التي رسمتها الثورة السودانية. أما لو تغلّب أحد الطرفين على الآخر ـ ولدى القوات النظامية تفوقٌ مهم باستئثارها بسلاح الطيران ـ فإن الطريق إلى تجديد الدكتاتورية العسكرية ستصبح معبّدة، بما قد يختتم الجولة الثورية التي دشنّتها «ثورة ديسمبر المجيدة» في نهاية عام 2018. عندها سوف يتحتّم على القوى الثورية السودانية أن تستعدّ للجولة القادمة بالسعي وراء مدّ نفوذها في صفوف القوات المسلّحة، بحيث تستطيع أن تشلّها في لحظة الانفجار الثوري، وهو شرط لا غنى عنه لانتصار الثورات الشعبية.

(عن جريدة القدس العربي)
التعليقات (0)