إننا
حينما نتحدث عن المسؤولية بين النخب والشعوب العربية في أفول شمس
الربيع العربي لا
نتجاهل حجم المؤامرات الكبيرة التي حيكت على المستويين الإقليمي والدولي،
والتحركات التي تمت منذ اشتعال جذوة الثورات العربية، وكما قيل "تولد مع كل
ثورة.. ثورة مضادة لها من أركان الدولة العميقة".
وقد
أسهبنا في مقال سابق في الحديث عن المؤامرات الخارجية والإقليمية على كافة
المستويات السياسية والاقتصادية للقضاء على
الثورة في مهدها.
لكننا
ومع اعترافنا بتلك المؤامرات نرى لزاما علينا محاكمة النخب
المصرية على جهلها بمكانة
مصر في محيطها العربي والإقليمي، وجهلها بشراسة القوى الدولية والإقليمية في
التمترس من أجل إضعاف المد الثوري خاصة في وطن كبير بحجم مصر، وأنه كان لزاما على
تلك النخب المحافظة على بوصلتها وهي تنخر في عباب بحر عميق، وكان عليها كذلك أن
تتحلى بقدر من الفهم لخطورة الموقع الجغرافي لمصر بل وعبقريته، كما وصفه المفكر
الشهيد "جمال حمدان".
ولسوف
أعرض لمجموعة من العوامل الذاتية التي كان لها الدور الرئيس في فشل النخب وإفشالها
في تعاملها مع الثورة:
1- ضعف
الخبرة نتيجة الإقصاء الدائم من دولاب الدولة ومن الحياة العامة، وهذا مما حرصت
عليه الأنظمة المتعاقبة منذ حركة الضباط الشهيرة في يوليو 1952، ولقد نجحت الأجهزة المعنية في عصر "مبارك" وعلى
مدار ثلاثة عقود كاملة في حرمان المنتمين إلى المشروع الإسلامي -دون سواهم-! من
الوصول إلى ما يُعرف بالوظائف العامة ومن دخول الكليات العسكرية والشرطية
والقضائية.
وكانت
التقارير التي تصدرها أجهزة الأمن كفيلة بحرمان كل من كانت له ميول إسلامية؛ ليست
أسرته فحسب بل وعائلته الكبيرة ومصاهرات العائلة كذلك. وحتى مع محاولات أكبر فصيل إسلامي
عدداً وعدة في مناوشة النظام من خلال الدخول إلى المجالس التشريعية والنيابية وانتخابات
الإدارة المحلية، غير أنه ومع ذلك لم يسمح له بتجاوز خطوط حمراء وضعها النظام لهم،
إضافة إلى أن غالبية كوادره كانت في الطب والهندسة والعلوم بعيداً عن السياسة والاقتصاد
ومراكز البحث التي توفر العقول النابهة في إدارة الدولة!
وثمة
فصيل آخر حرصت أجهزة مبارك على تغييبه خلف الأسوار طوال فترة حكمه وعدم الالتقاء
معه في أي طريق! ربما لبراعته في اختراق الأوساط الشعبية التي ينتمي السواد الأعظم
إليها، وربما للوضوح والحزم الذي عرف عنه، أو ربما لعدم مرونته أحيانا في اختيار
أنصاف الحلول مما تسمح به براجماتية العمل السياسي، وكانت النتيجة هي حرمانه من الحرية
ومن حق الحياة، بالإضافة إلى ما لحق به وبأبنائهم من حرمانهم مما حرم منه الفصيل
الأكبر.
2- نجاح
الأجهزة المعنية في تجهيز بعض الشخصيات المريضة بمصالحها وشهواتها، وفتح المجال
العام أمامها ومكافأتها بفضلات المائدة (مصر)! التي تقع تحت ملكية السلطة.. ليبراليون
ويسار ومحسوبون على الإسلاميين كذلك، وللأسف فقد كانت الغالبية من هؤلاء النخبة
علمانيين ويسار بمثابة لاعبي القمار ممن لا يشغلهم سوى الربح على طاولة اللعب، فلا
مبادئ ولا مواثيق وكل شيء قابل للبيع!
3- فشل
النخب في الوصول إلى القاعدة الجماهيرية الواسعة لا سيما بعد الثورة، والجهل
بأهمية الإعلام وترك الجماهير فريسة لإعلام الدولة العميقة، خاصة الفضائيات والصحف
التي وقفت خلف تمويلها قوى إقليمية خليجية من أجل التلاعب بعقول الشعوب؛ تلاعب الصِبية
بالكرة! فزيّن الإعلام للشعوب ما أرادوه لها، وقبّحوا لها رموز الثورة ورموهم
بالعمالة والخيانة.
ولم
تغب النخبة من صفوة الإسلاميين عن ساحة الإعلام لقلة التمويل وضعف مصادره، بل ربما
كان الأمر نوعا من اللا مبالاة المستفزة لأهمية الإعلام، وبُخلاً منهم في صناعة
مؤسسات إعلامية احترافية كالجزيرة وبي بي سي؛ تنقل للناس الحدث وتتداخل من أجل
تشكيل وعيهم وعدم تركهم فريسة للإعلام الموجه في الداخل المصري أو من الإمارة
الخليجية المعروفة، التي أنفقت مئات الملايين من الدولارات في حشد الكفاءات
الإعلامية وتدشين المراكز البحثية من أجل الغرض المنشود.
4- بلاهة
السواد الأعظم من الشعوب وتفضيلها البقاء تحت مظلة الاستبداد على حريتها وكرامتها،
وتسليمه عقولها للميديا الكاذبة رغم ما قاسته على أيدي أنظمة يوليو على مدار 70 عاما
من استئثاره بالسلطة والثروة مع مناخ القمع والقهر الذي كان الضمانة لاستمرار
النظام.
وحتى
لا نقسو على الشعوب، فقد لعبت النخب والتيارات -على اختلافها- دورا في تشويه
الصورة لدى جماهير الناس، وهو ما استغله إعلام الدولة العميقة في هدم الرموز وتخوين
النخب وتحميل الثورة كل أسباب التردي السياسي والاقتصادي.