كتاب عربي 21

الغُبن الديمقراطي العربي

نور الدين العلوي
يرى الكاتب في الانتخابات التركية درسا للعالم العربي- جيتي
يرى الكاتب في الانتخابات التركية درسا للعالم العربي- جيتي
لا يمكن للمرء أن يكتب بحياد عن الانتخابات التركية التي جرت يوم الرابع عشر من أيار/ مايو 2023، فالإعجاب بسلاسة العملية الانتخابية وشفافيتها مبهر ويثلج صدر الصديق ويغيظ صدر العدو المتربص، وما أكثر أعداء الانتخابات الشفافة النزيهة خاصة من مدعي الديمقراطية. أما إذا كان المتابع مواطنا عربيا (مواطن عربي هذه تعبير مجازي لربط الكلام فقط) فإن الإعجاب يتحول إلى قهر ماحق تنزف منه الأفئدة دما. سيكتب كثير من أنصار أردوغان مقالات مزدهية بانتصاره (ولو أنه معلق حتى الآن بالدور الثاني)، لذلك لا نظن أننا نضيف شيئا في هذا الاتجاه خاصة وأن كواليس الانتخابات وألاعيبها ليست ملقاة على قارعة الطريق، لذلك فإن المقارنة بين ما فعل الأتراك ببلدهم وبسياسته وما يصيب العربي من حكامه يفرض مقارنة موجعة وسننوح على أنفسنا هنا.

التاريخ القريب

على الورق النظري الذي ندرّسه للطلبة في العلوم السياسية، نجد أن هناك تلازما بين نِسب التعليم (التمدرس) وبين التقدم على طريق الديمقراطية، فارتفاع المؤشر الأول يهيئ للمؤشر الثاني بترابط سببي. في المقارنة على الأرض نجد نسب التعليم في بلدان مثل سوريا ولبنان ومصر وتونس سبقت النسب التركية تاريخيا.

الديمقراطية رفعت نسب التعليم فارتفع الإقبال على الشأن العام بواسطة الصندوق الانتخابي، وزادت الثروة فاستقر النظام وحصل المطلوب سياسيا: دولة قوية ومؤثرة. هذه هي المعادلة الغائبة عربيا والتي كانت تمر أمام أنظار كل عربي (عنده قلب حي) وهو يتابع الانتخابات في تركيا. لماذا هم هناك ينجحون فيما نفشل

قياس الثروة الوطنية بين بلدان العرب وتركيا يكشف غنى عربيا (حتى بدون ثورة النفط العربية) ومكابدة تركية إلى حدود العقدين الأخيرين. وهنا أيضا يوجد ترابط سببي بين الثروة (النظرية) وبين ممهدات الديمقراطية، لكن النتائج على الأرض مختلفة، فالثروة اتخذت لها طريقا نحو تركيا كأن بينها وبين العرب خصام قديم، والثروة حملت الديمقراطية فصارت مكسبا لعوام الناس؛ كلما أمعنوا في الديمقراطية زادت ثروتهم الفردية والجماعية، فضلا عن السيادة والموقع بين الدول والمشاركة في سياسات العالم من موقع فعّال وغير منفعل.

اتضحت معادلة بسيطة لكل ذي بصيرة: الديمقراطية رفعت نسب التعليم فارتفع الإقبال على الشأن العام بواسطة الصندوق الانتخابي، وزادت الثروة فاستقر النظام وحصل المطلوب سياسيا: دولة قوية ومؤثرة. هذه هي المعادلة الغائبة عربيا والتي كانت تمر أمام أنظار كل عربي (عنده قلب حي) وهو يتابع الانتخابات في تركيا. لماذا هم هناك ينجحون فيما نفشل هنا كأننا وُلدنا لنفشل فقط؟

لا يمكن التعلل بالعداء الغربي

نشترك مع الأتراك في أننا جميعا مصنفون لدى الغرب الديمقراطي (أضف القوسين) شعوبا شرقية متخلفة لا يستقيم أمرها إلا بدكتاتور غاشم، ولم نُخلق للديمقراطية، وهذا خطاب عمره مائتا عام، وقد تسلط على تركيا ما لم يتسلط على العرب مجتمعين (وكان بعض ما سلط عليها انتقام تاريخي وثأر من حقبة هيمنة الخلافة العثمانية على أوروبا). لذلك فإن أي عربي يبرر الفشل الديمقراطي العربي بهذه الضغوط وحدها هو ذهن كسور وإرادة ميتة.

لم تُهدَ الديمقراطية لأي شعب يتمتع بها الآن، لقد كانت كل تجربة ثمرة نضال طويل. ولا داعي للقول إن دور الغرب معاداة الديمقراطية خارجه، لقد صار هذا ثابتا تاريخيا بل سبق حتى الاحتلال المباشر (كانت الديمقراطية حينها لفظا فلسفيا فقط).

والعرب أسسوا الدول الحديثة وبنوا مؤسسات الحكم، لكنهم حوّلوا دولهم إلى إقطاعات للحكام. والمثير للحيرة هو صبر الشعوب على غياب الديمقراطية وتهربهم من دفع كلفة السير إليها، وهو الثمن الذي دفعه الأتراك بلا حساب، وآخر الأثمان كان التصدي للدبابات الانقلابية بصدور عارية، وانتخابات أيار/ مايو هي ثمرة مباشرة لذلك الدم الذي سارت عليه آخر دبابة انقلابية في تركيا، فيما العرب يُظهرون حتى الآن استعدادات لتقبيل خشم الدبابة والركون إلى الحذاء العسكري.

كانت لحظة الربيع فارقة، وقد كشفت أن الاستعدادات للديمقراطية في البلدان العربية واقع قائم وليست عملا مخالفا لطبيعة الأشياء كما يوهم بذلك الغرب المعادي، وأن المعاناة أيضا واقع قائم (وهل تُهدى الديمقراطية؟)، وأن المقاومة أمر مطلوب اهتداء بمعاناة الفرد التركي الذي رسّخ تجربته رغم أن العدو واحد

العداء الغربي للديمقراطية في العالم العربي وفي غيره (ليس ذلك العداء خاصا بالعرب لننظر إلى أفريقيا) حقيقة عاناها الأتراك ولم يخشوها، فلماذا نتخذها ذريعة لقبول الديكتاتوريات الفاسدة؟

الربيع العربي ما زال يَعِد بالأمل

تعزية حلال رغم الأفق المُدلهمّ بالسيسي وقيس سعيد وحفتر وبشار الأسد وشنقريحة الجزائري. آخر صف يقف معاديا للديمقراطية في البلدان العربية المقهورة بعد صف طويل رحل الربيع العربي برموزه إلى غياهب النسيان، لكن أنظمتهم أفلحت في الارتداد به إلى ما قبله. غير أن الوعد الديمقراطي ما زال قائما بقوة، علما أن الأتراك الديمقراطيين، ونسمي أردوغان باسمه، وقف إلى جانب الربيع العربي ودعمه وراهن عليه، وكانت وقفته من أسباب معاناته الانتخابية الأخيرة.

كانت لحظة الربيع فارقة، وقد كشفت أن الاستعدادات للديمقراطية في البلدان العربية واقع قائم وليست عملا مخالفا لطبيعة الأشياء كما يوهم بذلك الغرب المعادي، وأن المعاناة أيضا واقع قائم (وهل تُهدى الديمقراطية؟)، وأن المقاومة أمر مطلوب اهتداء بمعاناة الفرد التركي الذي رسّخ تجربته رغم أن العدو واحد.

كيف نستثمر في الاستعدادات اهتداء بالتجربة التركية؟ هنا درس عظيم وجب ثني الركبة والتعلم منه بصبر وأناة، وأول هذه الدروس هو أن معركة الديمقراطية هي معركة تحرر وطني بالأساس.

التحرر الوطني بالديمقراطية
"دبستنا" الأنظمة في خطاب استقلال مزيّف، لكنها عاشت من العمالة حتى ماتت بها وجمّدت شعوبها وروّجت لنا ما أمَرها حُماتها الغربيون بترويجه: إن الشعوب غير مؤهلة للديمقراطية ووجب حكمها بالحديد والنار، ولكن كل الدروس وآخرها الدرس التركي تثبت العكس. التحرر الوطني يسير جنبا إلى جنب مع بناء الديمقراطية

إعادة بناء النظرية السياسية العربية حول ثابتين أساسيين: بناء الديمقراطية لا ينفصل عن معركة التحرر الوطني، والتحرر الوطني يبني الديمقراطية. وهما عنصران متلازمان لا يمكن تحقيق أحدهما دون الآخر، فالديمقراطية لا تكون في بلدان بلا إرادة سياسية مستقلة، هذه حقيقة توصلنا إليها وكتبنا فيها كثيرا والانتخابات التركية تعيدنا إليها للتذكير والاعتبار. ولا معنى للسؤال أيهما يسبق الآخر، فهما متلازمان يحققان بعضهما كشرط تلازم اشتعال النار بوجود الحطب أو نزول الغيث بوجود رطوبة في الجو.

لقد "دبستنا" الأنظمة في خطاب استقلال مزيّف، لكنها عاشت من العمالة حتى ماتت بها وجمّدت شعوبها وروّجت لنا ما أمَرها حُماتها الغربيون بترويجه: إن الشعوب غير مؤهلة للديمقراطية ووجب حكمها بالحديد والنار، ولكن كل الدروس وآخرها الدرس التركي تثبت العكس. التحرر الوطني يسير جنبا إلى جنب مع بناء الديمقراطية، وخطاب ترتيب الأولويات هو خطاب منافق يؤجل الضروري ليستمر القمع.

الدرس التركي الأهم هو أن التركي يبني ديمقراطيته ويتصدى بها للاستعمار الغربي الذي لم يقصر في حربه على التجربة بمساريها السياسي الاقتصادي والتحرري، كلما زاد في قوة البناء الديمقراطي كلما حرر مناطقه وإرادته الاقتصادية وفرض نفسه فاعلا دوليا يُحسب لدولته كل حساب. لقد تبيّن الرشد الديمقراطي من الغي السياسي العربي، فمن أراد التعلم فالدرس مجاني ومتاح على كل وسائل الإعلام.
التعليقات (4)
الكاتب المقدام
الأربعاء، 17-05-2023 11:08 م
*** 3- وما نأمل فيه أن تكون التجارب المريرة التي مرت بها الشعوب العربية بعد ثورات الربيع العربي، ما ينير بصيرة نخبتها وغالبية شعوبها بحقيقة دعوات الديمقراطية الكاذبة التي انتقلت من الغرب الاستعماري عبر عملائهم المتغربين في الداخل، وهم في حقيقتهم قد أيدوا وبرروا كل الانقلابات التي قام بها عملائهم في الدول النامية، ووظفوا الدكتاتوريات الانقلابية في بلادنا كتابعين لهم، لصالح مد نفوذهم الغربي، وتعميق الاستيلاء على ثروات بلادنا، لضمان استمرار تخلفنا وضعفنا، وعلينا بدلاً من الانبهار بالديمقراطيات الغربية العنصرية العلمانية المنفلتة أخلاقياً، والتي تجنب الدين وتهمشه من حياة الشعوب، والتي يريد الغرب أن يفرضها علينا، فإننا قادرون على أن نؤسس لأنظمة حكم وسياسة واقتصاد أكثر عدلاً وإنسانية وارتباطاً بهوياتنا ومصالحنا، بعيداً عن العمالة للغرب والانبطاح له، والعمل تحت مظلة مصالحه الغربية، وتبني معتقداته، وطالماً ثبتت ولو فئة قليلة من أبناء الشعوب العربية في الحفاظ على هويتها واستقلالها الفعلي، وتأييد ودعم استمرار ثورات الربيع العربي ضد النظم الاستبدادية ومؤيديها في الداخل والخارج، ودعم حقوق شعوبهم في المشاركة الفعلية في شئون حكم بلادهم، وفي المساهمة في تقدمها والتمتع بثمارها، وهو مفاد القيم الإيجابية في الشعارات الديمقراطية الإنسانية وليست الغربية، فالنصر سيكتب لهم في النهاية، فتلك سنة الله في الأرض، والله أعلم.
الكاتب المقدام
الأربعاء، 17-05-2023 11:01 م
*** 2- وليس من المستغرب أن تصف الديمقراطيات الغربية العنصرية، النظام العنصري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بكونه نموذجاً ديمقراطياً واعداً، قابل للتصدير والتطبيق في بلداننا العربية، وفي مصر أسس السادات "الحزب الوطني الديمقراطي"، الذي استمر في حكم مصر تحت شعار الديمقراطية في عصر مبارك، الذي احترف تزوير كل الانتخابات الصورية باسم الديمقراطية، وانفرد باحتكار حكم شمولي لمصر، منبطح وتابع للمحور الصهيوني الغربي لفترة تجاوزت ثلاثين عاماً، وقد انحل الحزب الوطني الديمقراطي، وسقط وانهار في غضون أسابيع بعد ثورة يناير 2011، أما حزب الوفد وهو أقدم أحزاب مصر الليبرالية الديمقراطية، فقد انبطح تحت أقدام حكم بيادات العسكر مشيداً بها وداعماً لها، ضمن ما سمي بجبهة الإنقاذ التي ضمت أحزاب تتشدق بالشعارات الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية والمدنية، التي أيدت انقلاب العسكر على أول نظام حكم يمكن أن يوصف بكونه نظاماً ديمقراطياً حقيقياً في مصر، وبعد انقلاب الجنرال السيسي، جَرَمَ القضاءُ المنحاز المسيس المنبطح "الختمجي"، وباسم العدالة الكاذبة والديمقراطية اللقيطة، وأدان حركة الإخوان المسلمين ونعتوها بالإرهاب، رغم أن المتهمين بتأييدها هم غالبية الشعب المصري من أبناء التيار الإسلامي الذين أيدوها في كل انتخابات حرة أجريت، وتكرر الأمر في تونس بحذافيره، حيث اعتُقل الغنوشي رئيس البرلمان ورئيس حزب النهضة المنتخب، الذي حظى بأغلبية تأييد التونسيين في كل انتخابات منذ ثورة 2010، ولم نسمع اعتراضاً من تيارات سياسية تونسية تتشدق بالشعارات الديمقراطية، بل ومنهم من أيد ما اتخذ تجاهها من إجراءات قمعية ديكتاتورية، وكله باسم الديمقراطية والوطنية الكاذبة، فلا عجب أن اكتسبت عن حق تلك التيارات السياسية والأنظمة القمعية المتسربلة بالشعارات الديمقراطية والوطنية الكاذبة المدعاة سمعة إجرامية بين شعوبنا العربية.
الكاتب المقدام
الأربعاء، 17-05-2023 10:21 م
*** 1- "الديمقراطية" مصطلح قديم استخدم منذ قرون طويلة، وشاع استخدامه في العصور الحديثة، وهو مصطلح مطاط حمْال أوجه متعددة، بما جعله مصطلح سئ السمعة، رغم كل التهليل له والإشادة به، وتاريخياً فالمعنى الأصلي اليوناني القديم، وصف به نظام الحكم الإغريقي في أثينا القديمة، التي انفردت النخبة الحاكمة فيها بشئون الحكم، واستبعاد غيرهم من العامة والنساء، وأبناء الشعوب المحتلة المستعبدة، وفي روما القديمة استخدم أيضاً مصطلح الديمقراطية، لوصف نظاماً سياسياً امبراطورياً، انفردت فيه قيادات العسكر بشئون السياسة والحكم في الدولة الرومانية، وبالتحالف مع الكنيسة في عصورها الأخيرة، التي ارتكبت أفظع المجازر ضد الشعوب المحتلة المستعبدة، واستمرت النماذج الشاذة عبر تاريخ العصور الوسطى إلى العصر الحديث، حيث سعت أنظمة عنصرية أوروبية لاحتلال الدول الأخرى لنهب ثرواتها باسم نشر القيم الديمقراطية، وبعد احتلال الاتحاد السوفيتي لدول أوروبا الشرقية، وتقسيم ألمانيا، اصبحت المانيا الشرقية تحت الاحتلال السوفيتي، وحكم الحزب الشيوعي الشمولي الأوحد، والذي يجرم معارضيه بتهم تورد أصحابها للإعدام، سميت باسم "جمهورية ألمانيا الديمقراطية"، وفي ليبيا تحت حكم القذافي اصبح اسمها الرسمي «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية» وقال القذافي أنه يعتمد على نظام حكم سماه "الديمقراطية المباشرة"، وفي الولايات المتحدة، أعظم الديمقراطيات الغربية الحديثة، خاض رئيسها المنتخب ديمقراطياً بوش الأبن، مع تحالف ضخم من غالبية الدول الأوروبية الديمقراطية، حرب إبادة ضد الشعبين الأفغاني والعراقي، تحت اسم وشعار "الحرب الصليبية العاشرة"، وتحت شعار الحرب ضد الإرهاب، واستمرت الديمقراطيات الغربية دون اعتراض جاد من شعوبها الديمقراطية في ارتكاب جرائم حرب لسنين طويلة ضد الإنسانية وقتل جماعي للمدنيين العزل وتدمير المدن والقرى والمزارع في كلا البلدين، وباسم إقامة نظام حكم ديمقراطي حديث فيهما.
القاعدون
الأربعاء، 17-05-2023 01:06 ص
ربما نحتاج لرجل أو إمرأة ليذكرالناس و يقول لهم إنكم ولدتم أحرار و من العار أن تصبحوا عبيد لأشباه العباد و أن محمد(ص) لم يحرر نفسه و أمته بالتمني و القعود