شكّل فوز الرئيس رجب طيب
أردوغان بفترة رئاسية ثالثة وأخيرة، حدثا تاريخيا وفريدا، مدفوعا بنجاح إنجازاته داخليا وإقليميا ودوليا، محليا وإقليميا. وذلك لثلاثة أسباب:
الأول: الانقسام الحاد في المجتمع التركي. شهدت
تركيا الانتخابات الأصعب والأطول والأعقد في تاريخها المعاصر. تمثل ذلك بكثافة ونسبة المشاركة المرتفعة تعدت 85 في المئة في الجولتين. وفاز أردوغان بنسبة 52 في المئة في منافسة شرسة. ما يجعل نسبة الاقتراع من الأعلى في ديمقراطيات العالم؛ وذلك بسبب الصراع والاستقطاب بين نهجين ومشروعين محافظ ـ إسلامي يقدس الأسرة ويرفض انتشار مجتمع الميم للمثليين، مدعوما من القاعدة المحافظة الإسلامية في تركيا والعالمين العربي والإسلامي، ومشروع تغريبي علماني متوحش معاد لمشروع أردوغان وحزبه وأنصاره، مدعوماً من الغرب والقوى الليبرالية والعلمانية. لذلك كان الاهتمام ومتابعة الانتخابات التركية واسعا وغير مسبوق في تركيا وخارجها في صراع على الهوية. وهذا يفسر الاهتمام الرسمي والشعبي لدولنا وحلفاء وخصوم تركيا، وللأنظمة والمؤسسات الإعلامية التي راهنت على خسارة أردوغان واصطفت وحرّضت ضده وحزبه. واصلت مجلة الإيكونومست ووسائل إعلام غربية اتهامه بالديكتاتورية والاستبداد والخطر على
الديمقراطية لإسقاطه. وكررت تيارات معادية لنجاح الإسلاميين خطابها المعادي لأردوغان برغم تقارب حكوماتهم مع تركيا.
ثانيا: أكدت الانتخابات تصاعد الصراع على هوية تركيا ودورها ومستقبلها بين التوجهين المحافظ الإسلامي والتغريبي العلماني. والمثير للقلق هو عمق الانقسامات الحادة وتصاعد نبرة الخطاب الشعوبي القومي ـ العنصري، المعادي للأقليات (الكردية) والمهاجرين واللاجئين وخاصة السوريين، وعدم نجاح أردوغان وحزبه العدالة والتنمية في اختراق المدن الكبرى: إسطنبول وأنقرة وإزمير قلعة الأتاتوركيين العلمانيين. أعتقد سيكون من أولويات الرئيس أردوغان وحزبه انتزاعهم، خاصة إسطنبول كبرى المدن والعاصمة أنقرة في انتخابات البلديات والمحلية بعد تسعة أشهر، ما سيعمق الاستقطاب.
يخفف من تحديات أردوغان الرئيسية، انتصار تحالفه الرباعي بقيادة حزبه، بتحسين مستوى معيشة الأتراك، بمواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، التي كان الرهان أنها مع كارثة الزلزال واتحاد المعارضة ستطيح به. لكن الملفت بالإضافة لفوزه، احتفظ تحالفه بأغلبيته في مجلس النواب (323) مقعدا، تمكنه من تمرير أجندته ومشاريع قوانين حكومته. وخاصة المشاريع المالية والإصلاحات الاقتصادية لخفض التضخم ووقف تدهور الليرة والبطالة. يدعم ذلك اكتشافات الغاز في البحر الأسود واحتمال اكتشافات جديدة في البحر المتوسط. لذلك بشّر أردوغان برفع الحد الأدنى من الأجور إلى 750 دولارا شهريا، وتوفير شهر من إمدادات الغاز مجانا للمنازل.
وكان صادما فوز أروغان بـ8 من 11 ولاية كانت مركز الزلزال المدمر ـ أودى بحياة 50.000 شخص ـ وتعهده بتوفير 650.000 وحدة سكنية وإعادة إعمار المناطق المتضررة، ونجح بتسليم بعض الوحدات السكنية، ومستشفى قبل الانتخابات.
ثالثا: نجح الرئيس أردوغان وحزبه الاستمرار في الحكم عبر صناديق الاقتراع لعقدين، وقدرته على قيادة تركيا في إقليم وظروف وتوازنات صعبة، أكسبته مزيدا من الخبرة والخطابة والإقناع. ظهر ذلك بمواجهة خصمه الضعيف كليتشدار أوغلو ممثل حزب الشعب والطاولة السداسية الهلامية. نجح أردوغان بتفتيتها وإحداث تصدعات داخلها. وبسبب خطاب الكراهية ـ الشوفيني المتعصب، ضد الإسلاميين والمهاجرين واللاجئين وخاصة السوريين، وتضخميه من أعداد اللاجئين السوريين من 3.5 مليون إلى 10 ملايين لاجئ سوري. عاشوا بهلع ورعب لتعهده بطردهم وإعادتهم إلى سوريا، والتقارب مع النظام السوري!
كما فشلت المعارضة بتقديم برنامج عمل واقعي، يتوقع أن يضم طاقم وزارة المالية والبنك المركزي في تشكيلة الحكومة الجديدة، بعودة وزير المالية الأسبق محمد شيمشك ليعالج الأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة والتضخم.
في السياسة الخارجية: يدور الحديث عن تعيين وزير جديد. وكانت المعارضة فشلت بتقديم برنامج يبني على الإنجازات المهمة التي حققها الرئيس أردوغان وحزبه في السياسة الخارجية، بنقل تركيا من دولة هامشية تلهث للانضمام للاتحاد الأوروبي، وباقتصاد هش وعداء مع الجيران. ووظف عضوية تركيا في حلف الناتو الأقوى عالمياً، بتعزيز أهمية تركيا، العضو الوسيط الوحيد بعلاقة وثيقة مع بوتين ـ روسيا. ما مكّن تركيا النجاح بدبلوماسية الوساطة والتوصل إلى اتفاق الحبوب من موانئ البحر الأسود إلى العالم عبر مضيق البوسفور في الصيف الماضي. جنب العالم أزمة أمن غذائي، خاصة لشعوب دول أفريقيا الفقيرة، وشعوب بعض الدول العربية التي تعتمد على صادرات القمح والحبوب من روسيا وأوكرانيا.
وتساهم عضوية تركيا في مجموعة العشرين، أهم تجمع اقتصادي لأكبر اقتصاديات العالم بتعزيز مكانة وثقل تركيا على المسرح الدولي. وبرزت تركيا لاعبا رئيسيا في ملفات وأزمات الشرق الأوسط وتصفير المشاكل. ونجحت بتطوير ّقطاعاتها التجارية والصناعية وبتصدير صناعاتها العسكرية.
سيستمر نهج البراغماتية والندية والتوازنات الصعبة في السياسة الخارجية. والرافعة عضوية الناتو والتقارب مع الرئيس بوتين مع تصاعد حرب روسيا على أوكرانيا. والندية تجاه أمريكا وأوروبا، حول صفقات الأسلحة ومقايضة رفع فيتو انضمام السويد للناتو مقابل صفقة مقاتلات F ـ 16. لمّح له الرئيس بايدن في مكالمته لتهنئة أردوغان بفوزه. وبمناكفة أوروبا حول التزاماتها بقضايا اللاجئين السوريين وحلف الناتو. وفرملة التقارب مع نظام الأسد، واشتراط التعاون في مواجهة الفصائل الكردية الإرهابية YPKوPKK وبقاء خيار شن عملية عسكرية.
خليجيا، يتسارع التقارب الذي بدأ قبل أكثر من عام في مجال الزيارات والاستثمارات والصفقات التجارية والعسكرية. أكد موقع بلومبرغ عقد اجتماع بين ممثلين عن شركة أرامكو أكبر شركة نفط في العالم مع ممثلين لشركات بناء تركية في أنقرة بعد أيام من إعلان الرئيس أردوغان، لمناقشة مشاريع عملاقة في السعودية تقدر قيمتها بـ50 مليار دولار. ووقعت الإمارات اتفاقيات تجارية بقيمة 40 مليار دولار مع تركيا للسنوات الخمس القادمة، يجعل الإمارات الشريك التجاري الأول إقليميا، في معادلة رابح ـ رابح للأطراف.
نجحت تركيا بزيادة رصيد قوتها الناعمة والملهمة للشعوب، ما يشكل تحديا للأنظمة التي اعتادت ديمومة الكراسي والفوز بنسب 99 في المئة!
(القدس العربي)