لا يكاد يمرّ يوم لا نلمسُ فيه ازدحاما في الفضاء (الإلكتروني) الذي يعج بـ(فيديوهات) تظهر مرضى أو أهليهم، يطلبون ويرجون المساعدة من الآخرين لجمع مبلغ من المال من أجل شراء علاج مكلف، ربما قد سمعوا عنه من أصدقاء أو شاهدوه على منصات التواصل الاجتماعي أو قام طبيب بوصفه لهم. وهذه الظاهرة لا تقتصر علينا كأردنيين وعرب، وإنما هي ظاهرة نشهدها بلغات العالم كافة.
لقد شهدت مجالات الطب المختلفة تطورات لافتة خلال السنوات القليلة الماضية؛ وكان التطور في مجال التكنولوجيا الحيوية والصناعات الدوائية هو الأبرز، وقد منحت هذه الفتوحات الطبية الكبيرة الأمل بالشفاء لملايين المرضى، وغيّرت من ملامح الكثير من الأمراض المستعصية وفي مقدمتها مرض
السرطان؛ لكنها جلبت معها أيضا تحديات جديدة ليست بموضع ترحيب، فاقمت من حجم الهوّة بين الأغنياء والفقراء، متمثلة بتضخم في التكلفة المالية الخرافية لهذه الأدوية.
فاليوم، لم يعد مستهجنا أن نجد دواء بيولوجيا أو مناعيا تقدّر تكلفته بمئات الآلاف من الدولارات؛ بل إن كثيرا من أسعار هذه الأدوية قد تخطت هذه الأرقام، سواء بسبب طول مدة استخدامها من قبل المرضى، أو باتباع سياسة المزاوجة بين الأدوية المختلفة، التي أصبحت (موضة) دارجة في علاج العديد من الأمراض. وتعزو الشركات ارتفاع أسعار الأدوية إلى الكلف العالية لعمل البحوث والدراسات التي تجرى في سبيل الحصول عليها، فنسبة الأدوية التي تجتاز مراحل التجارب السريرية كافة، وتحصل على موافقة الجهات المنظمة لسوق الأدوية بالكاد تصل إلى (10 %)، مما يدفع بهذه الشركات إلى تحميل كلف الأدوية غير الناجحة على تلك التي تصل إلى المريض. كما أن إنتاج الأدوية الحديثة يتطلب تكنولوجيا تصنيعية معقدة ومحصورة في عدد قليل من دول العالم، مما يعزز من قوة عامل الاحتكار وغياب المنافسة، ومن ثم يمنح هذه الشركات مساحة واسعة لتسعير منتجاتها بالسعر الذي ترتئيه، وفي ضوء ذلك، فإن الحاجة الملحة لدى المريض تدفعه للحصول على
العلاج بأي ثمن، وإلى الاستسلام والإذعان لإملاءات ورغبات هذه الشركات.
كما تحظى هذه الشركات، من خلال مجموعات الضغط التي تؤثر في السياسة الدولية، بحماية الدول، وذلك بتمديد فترات حماية براءة الاختراع وحقوق الملكية الفكرية، مما يمنحها فرصاً أقوى للحفاظ على أسعارها المرتفعة.
وتواجه الأنظمة الصحية حول العالم تحديات كبرى في مواجهة ارتفاع تكاليف العلاج، وفي المقابل الحاجة الملحة للحصول على العلاج، مما يضعف إمكانية الوصول إلى العلاجات المبتكرة ويكون له آثار سلبية تؤثر على جودة الرعاية الصحية، وتتجلى هذه التحديات بصورة أكثر وضوحا لدى الدول الصغيرة والفقيرة، التي لا تملك أسواقا مزدهرة ولا تملك القدرة على توفير القوة التفاوضية مع شركات الأدوية.
لقد كان للمجتمع الدولي تجربة ناجحة، وإن كانت متأخرة، في توفير الأدوية المختصة بعلاج مرض نقص المناعة المكتسبة للدول الفقيرة بأسعار معقولة، مما يؤشر على قدرة هذا المجتمع على التأثير في أسعار الأدوية في حال توفرت الإرادة السياسية لذلك، ولا يوجد ما يمنع من استنساخ هذه التجربة مع أمراض أخرى كالسرطان.
وللحد من هذه المشكلة، لا بد من السعي لإيجاد حلول مبتكرة ومتعددة الأطراف، بحيث تشمل التعاون بين الشركات الدوائية والمؤسسات البحثية والحكومات والمجتمع الدولي بهدف تعزيز الابتكار؛ للوصول إلى حلول منصفة للشركات والمرضى، فتضمن ربحا معقولا للشركات تمكنها من الاستمرار في البحث العلمي، وتعطي المرضى فرصة ذهبية للحصول على هذه الأدوية والحصول على العلاج بعدالة وكرامة.
(
الغد الأردنية)