في معظم الدول المتجاورة بحرا، هناك خلاف على الحدود البحرية، وبخاصة إن كانت تلك الحدود البحرية تخبئ تحتها ثروات، ولا أهم في عصرنا من الثروات الأحفورية السريعة المردود المالي للاقتصاد. أشهر مثال هو الخلاف حول الجزر والحدود البحرية في شرق بحر الصين وجنوبه، بين الصين ذات القوة الكبرى في المنطقة، وكل من الفلبين واليابان وفيتنام، ذلك الخلاف (الصراع) لم يحل نهائيا حتى اليوم، وإن بردت سخونته بانصياع طوعي أو غير ذلك للقانون الدولي.
نزاعات الحدود في المنطقة
الخليجية ليست جديدة، بين فترة وأخرى تطل برأسها، وفي السنوات الأخيرة صار الوفاق بين الدول العربية الخليجية أكبر كثيرا من الخلاف الذي ساد في الماضي، بالطبع لا يمكن أن يسمح للماضي لدى العقلاء أن يقرر المستقبل.
بقي الخلاف مع الجارة
إيران، وقد ظهر مؤخرا حول حقل الدرّة البحري، الذي به من الثروة النفطية وبخاصة الغازية الكثير، وهو يلحق بشكل ما بالخلاف على الجزر جنوب الخليج.
أصبح النزاع على صدر صفحات الصحف الذي يُظهر مطالبة إيران من جهة بقسم منه، واعتبار كل من
الكويت والمملكة العربية السعودية، أنه حقل يقع في المياه الإقليمية الخاصة بالدولتين.
يعرف الجميع أنه منذ أشهر تم شيء من الوفاق بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية، وأيضاً كانت هناك علاقات عمانية وإماراتية وقطرية وكويتية مشمولة بالسلم بين إيران وتلك الدول. هذا السلم مرحب به بين شعوب المنطقة العربية؛ لأن تكلفة البديل للعقلاء هي أكبر من أي مكابرة.
هناك ملفان حول الموضوع، أحدهما بيني، أي بين دول الخليج نفسها، فما زال البعض الذي يحاول أن يستنفر الشعور الوطني (حقا أو باطلا) للحديث عن (الحدود في الماضي)، وذلك أمر يسمم العلاقات بين بلدان الخليج، ومَن يخوض في هذا الملف على وسائل الإعلام أو على منصات الإعلام الاجتماعي، إما تنقصه المعلومات، وإما ينقصه الوعي مما يسببه موقفه من ضرر في العلاقات البينية.
معظم الخلاف الحدودي بين بلدان الخليج تم حلّه بالتراضي، والخوض في تلك الملفات هو قصور في فهم التحديات الإقليمية والدولية المحيطة بالجميع، فنحن في الخليج في قارب واحد، وفي بحر متلاطم علينا جميعا التجديف معا حتى نصل إلى بر الأمان، من يحاول خرق القارب، فهو في حقيقة الأمر لا يفعل بسبب حرية الرأي، بل هو يعرض الأمن الوطني للجميع إلى الخطر.
ذاك هو الملف الأول. أما الملف الثاني، فهو العلاقة بالجارة إيران، ودول الخليج على الجانب الغربي منه، لم تجاوره اليوم أو أمس، هي مجاورة تاريخية، عندما كان الوضع السياسي والاقتصادي في إيران يضطرب، كانت هناك هجرات إلى الجانب العربي، والعكس صحيح أيضا، فذلك الجوار فرض نوعا من التعامل الذي يرجوه الطرفان أن يكون عادلا، ويحقق مصالح مشتركة لكل الأطراف.
اليوم لا توجد إلا آلية وحيدة، بعيدة عن استخدام القوة وفرض الأمر الواقع، تلك الآلية هي العودة إلى القانون الدولي، فدول الخليج وإيران محكومة بقانون دولي معروف، يتوجب الانصياع إليه من دون إكراه أو تهديد بالقوة، وفي ظل حماية الأمم المتحدة.
إيران بعد الثورة الإسلامية وجدت لها (مؤيدين أو أنصارا) في بعض الدول العربية، منها كما هو معروف لبنان والعراق، وأيضا لا نستبعد أن هناك بعض الأنصار في بلدان أخرى، ربما أقل نشاطا مما هو موجود في العراق وإيران، تلك حقيقة، وهي ليست جديدة في العلاقات الدولية، لقد كان للحزب النازي الألماني في ثلاثينيات القرن الماضي (أنصار) في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية، كما كان للاتحاد السوفياتي (أنصار) من اليمن الجنوبي وقتها إلى كوبا، عدا عدد كبير من دول أوروبا الشرقية.
إن كانت هناك (عصبية) آيديولوجية ملتهبة، فيمكن أن يتبعها البعض خارج الحدود، إلا أن طبيعة العصبية الآيديولوجية (أكانت مبنية على مذهب أم أفكار سياسية/اقتصادية) لها كما علّمنا التاريخ موجة صعود ومرحلة تراجع، الوضع في الآيديولوجية الإيرانية أنها تعاني بعد نصف قرن من وعي مضاد في بلدان النفوذ، وذلك من طبيعة الأمور، وربما الوفاق الذي تسعى إليه إيران اليوم نتيجة لوعي تلك الحقيقة التاريخية.
إلا أن الشوائب ما زالت باقية، والتراجع لا يكون فجائيا. من المؤكد أن البعض في إيران يعرف أن (مشروعه السياسي) غير مقبول في الجوار، كما أن الجوار لا يقرر ما يجب أن يحدث في إيران، ذلك قرار الإيرانيين وحدهم، المطلوب هو التساكن السلمي.
الاتفاق السعودي - الإيراني لا ينظر إليه من المراقبين في الضفة المقابلة أنه (توافق ترقيعي) هو مد اليد، على أساس احترام (قواعد القانون الدولي) بين الجوار، وينطبق على تقسيم الحدود المشتركة (البحرية هنا)، ما يبدو أن البعض في الجوار الإيراني يعمل على قاعدة (شروط المصلحة الانتقائية)، أي وفاق هنا وخلاف هناك، كما أن القاعدة التي تلتزم بها إيران في التفاوض هي قاعدة حل المشكلات مع الجوار على أساس منفرد، وهذا ما كانت تأخذ به، فقبل سنوات قرر مجلس التعاون إرسال رسالة مودة إلى إيران، لم تقبل الرسالة وقتها التي حملها وزير الخارجية الكويتي، بل قيل إنها تفضل التفاوض فرادى مع دول الخليج، طبعا من أجل القوة النسبية التي تتفوق فيها إيران على كل دولة خليجية منفردة، وهو أمر في العلاقات الدولية له شبيه، فالصين كانت تقول بنفس الشرط في تفاوضها على الحدود البحرية مع الجوار للاستفادة من (التفوق النسبي)، حتى سمي ذلك في العلاقات الدولية (التكتيك الصيني)! ولقد رُفض ذلك المطلب واضطرت أن تتفاوض مع مجموعة من الدول لها مصالح مشتركة، ما نحتاجه مع الجارة إيران (الوصول إلى مدونة سلوك شاملة) تمنع الصراع، بدلا من نبش الجروح الانتقائية في بعض الملفات.
آخر الكلام: ما تحتاجه ضفتا الخليج، هو قبول التنوع والانصياع إلى السلام لصالح التنمية والاستقرار للجميع.
(الشرق الأوسط اللندنية)