انتهى أكثر من عقد من الزمن على سقوط نظام الجماهيرية في
ليبيا (2011)، وما
زال الليبيون يُصارعون من أجل تيسير ظروف التوافق على طبيعة الدولة ونمط السلطة ونوع
المؤسسات التي يُمكن بناؤها لإخراج بلدهم من حالة الصراع والاقتتال وخطر التفكك، الذي
يواجهه المجتمع بكامل مكوناته ومختلف روافده
القبلية والجهوية. فقد ورث الليبيون أوضاعا
سياسية ومؤسساتية موسومة بالضعف والوهن، ومُفتقدة للمتطلبات الدنيا الواجبة لقيام
الدولة المعاصرة، حيث كانت مُدّة حكم نظام الجماهيرية (1969-2011) كافية لترسيخ
ثقافية سياسية نابذة لفكرة الدولة بالمعنى العُضوي، ومفهوم السلطة المؤسَّس على
التعاقد، ونوعية المؤسسات المنبثقة من حرية الاختيار وسلطان الإرادة الجماعية.
فكما تمّ التعويل على التدخل العسكري المباشر للحلف الأطلسي لكبح جماح قوة النظام
القائم، وحقن الدماء الناجمة عن الاقتتال، بالقدر نفسه كان الظن قويا بأن سقوط
النظام سيُدخل ليبيا مرحلة انتقالية، يُصار معها، لا محالة، إلى استعادة الدولة،
وإعادة بناء السلطة والمؤسسات، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، إذ سرعان ما تعرضت كافة
المحاولات المتتالية والجهود المبذولة إلى التقويض، ودخلت ليبيا فصولا جديدة من العنف
والعنف المتبادل، لتُصبح البلاد محكومة بمؤسستين تشريعيتين، وحكومتين واحدة في شرق
البلاد والأخرى في غربها، كما تعددت الرؤوس والمليشيات العسكرية، ولم يعد المجتمع قادرا
على ضبط ولائه وتحديد انتسابه الوطني، بما يحافظ على هويته الجماعية وتماسك وحدته.
استبشرت شرائح كثيرة من الليبيين بمسار العملية السياسية والنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات، لكن سرعان ما توضحت صورة المسار الانتقالي، وانكشفت الاختلالات البنيوية التي صاحبتها، وأضعفت قدرتها على الديمومة والاستمرار
فخلال المرحلة الانتقالية الفاصلة ما بين 2011 و2020، تكونت مجموعة من
المؤشرات ولّدت انطباعا بأن ثمة توجها نحو مأسسة (Institutionnalisation) الدولة
والسلطة، وصياغة ولاء جديد مبني على المشاركة المجتمعية الإرادية. وقد استبشرت شرائح
كثيرة من الليبيين بمسار العملية السياسية والنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات،
لكن سرعان ما توضحت صورة المسار الانتقالي، وانكشفت الاختلالات البنيوية التي صاحبتها،
وأضعفت قدرتها على الديمومة والاستمرار.
فهكذا، تبين أن الخريطة التمثيلية الناجمة عن العملية الانتخابية لم تكن
متوازنة، حيث لم تجد قوى سياسية مكانتها في مراتب توزيعها، علاوة على سوء ترتيب الوظائف
ذات الطبيعة السيادية، وعدم القدرة على توزيعها بتكافؤ بين الفاعلين في المجال
السياسي والاجتماعي الليبي، وهو ما ولّد شعورا بالإقصاء والتهميش لدى تنظيمات وقوى
مؤثرة في الحياة العامة الليبية، العسكرية والمدنية على حد سواء.
ونتيجة لسوء تصميم خريطة بناء المؤسسات وحسن ضبط اختصاصاتها، تهدّم البناء
الدستوري برمته، وانزلقت البلاد نحو الاقتتال والعنف المتبادل، وتحولت ليبيا مرة
أخرى إلى ساحة فوضى لم تقدر معها كل المساعي الدبلوماسية الإقليمية والدولية على لجم
موجات الاقتتال الداخلي بين الإخوة الأشقاء.
لعل من اللافت للانتباه في ليبيا ما بعد 2011 العودة القوية للنزعة
القبلية، وتعاظم أدوار الموالين لها، فمن المعروف أن القبلية ظلت حية ومستمرة خلال
نظام الجماهيرية، حين وظفها "معمر القذافي"، واستثمر مخزونها الرمزي ضمن
توازنات خاصة باستراتيجية النظام، غير أن عودة القبلية بعد سقوط النظام عام 2011، اكتست
أبعادا خاصة، حيث أصبحت وقودا للاقتتال الداخلي، وبناء التحالفات والولاءات الضيقة،
وتكريس نزعة المحاصصة التي دبّت في المجتمع الليبي، والأخطر تعدت الحدود الوطنية لتنسج
علاقات خارجية وولاءات دولية، وهو ما ساهم في إضعاف هوية ليبيا ووحدتها الوطنية.
لذلك، ظهرت نقاشات حول الفيدرالية، أو توسيع دائرة اللا مركزية وهجرة البناء
المركزي الذي طبع البناء الدولتي في ليبيا. والحال أن القبلية بالشكل الذي عادت عليه
بعد 2011 ساهمت في تعقيد إيجاد مخارج لإعادة بناء مؤسسات الدولة في ليبيا، أكثر مما
كان محفزا على النقاش حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه الدولة الجديدة في ليبيا.
ليبيا الجديدة في حاجة ماسة إلى حل سياسي شامل، يبدأ من تشكيل حكومة وحدة وطنية، وبناء مؤسسات وطنية موحدة، تمثل الجميع وتعبر عن مطالب وتطلعات الكافة.. فالليبيون وحدهم وبإرادتهم المستقلة، معنيون بإعادة بناء دولتهم ومؤسساتهم، وبتغليب المصلحة العليا لوطنهم يستطيعون إقامة دولة تتسع للجميع
يصعب في الزمن المنظور تصور معالجة متوازنة ومقبولة للانقسام الذي ألمّ بالمؤسسات
الليبية ما بعد العام 2011، وفشل المرحلة الانتقالية التي عمرت عقدا من الزمن (2011-2020)،
فعدد من الأدبيات ذات القيمة العلمية والعملية الرصينة، حذرت من التحديات التي خلفتها
سنوات
الانقسام، وخطورتها على مستقبل الدولة في ليبيا، ومنها على وجه الخصوص الدراسة
الهامة لـ"منظمة الأمم المتحدة لغرب آسيا"، (الأسكوا)، الموسومة "دولة
المؤسسات والتكامل الإقليمي والتعاون الدولي"، الصادرة عام 2021.
فقد حذرت من مجموعة من التحديات التي تعترض مسيرة ليبيا لبناء دولة المؤسسات،
ومنها على وجه الخصوص هدر "النفقات والمصاريف للمؤسسات القائمة والمنشأة"،
التي تشمل التسيير والمرتّبات والأجور، و"الإسهاب في التوظيف والإيفاد داخليا
وخارجيا"، وترسانة "القرارات الإدارية والإجراءات المضادة من قبل
الحكومات المتعاقبة"، علاوة على "التمرد على المسؤولين والتحجج بالانقسام
السياسي"، و"تحدي أحكام المحاكم ولقضاء والقرارات الصادرة، لا سيما في
ما يخص الإعفاء من المهام، والاستمرار في تمثيل المؤسسة بشكل غير قانوني وتحميها التزامات
مالية".
فليبيا الجديدة في حاجة ماسة إلى حل سياسي شامل، يبدأ من تشكيل حكومة وحدة
وطنية، وبناء مؤسسات وطنية موحدة، تمثل الجميع وتعبر عن مطالب وتطلعات الكافة.. فالليبيون
وحدهم وبإرادتهم المستقلة، معنيون بإعادة بناء دولتهم ومؤسساتهم، وبتغليب المصلحة
العليا لوطنهم يستطيعون إقامة دولة تتسع للجميع، وتشرف على توزيع خيرات البلاد بتكافؤ
واستحقاق على الجميع.