أثار نواب في مجلس العموم البريطاني قبل العطلة الصيفية (بدأت أول من أمس - الجمعة لـ6 أسابيع) تورط
البنوك والمؤسسات
المالية في السياسة، بشكل يهدد حرية التعبير كأهم أسس الديموقراطية، والأخطر حرمان أعداد معتبرة من المواطنين من الحساب البنكي، وهو اليوم ضرورة لا غني عنها.
المشكلة البريطانية أبعادها عالمية؛ بسبب عولمة البنوك والمؤسسات المالية ووكالات التبادل المالي بأنظمة الدفع على الإنترنت (مثل باي - بال paypal التي شملها الانتقاد)، والتي لها نفوذ ونشاطات في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. أيضاً المسألة نموذج لتوضيح مدى نفوذ وقدرة مؤسسات تجارية غير حكومية في الضغط على نشاط الأفراد والجماعات، بينما لا تخضع هذه المؤسسات لأي محاسبة كحال المشتغلين بالسياسة والحكومات المنتخبة أو المؤسسات المملوكة للدولة.
المشكلة التي بدت كفصل في الحرب الثقافية الدائرة بين اليسار الليبرالي ويمين الوسط المحافظ، اتضح أنها قمة جبل الثلج العائم.
قبل أسبوعين، اشتكى نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب الاستقلال، الذي فجّر شرارة حملة البريكست، من إغلاق حسابه في بنك الأثرياء (كوتس)، المملوك للشركة القابضة «بنك ناتوست» («ناتوست» لا تزال 38.6 في المائة من أسهمها مملوكة لدافع الضرائب البريطاني، وبقية الأسهم اشترتها الخزانة لإنقاذه من الإفلاس أثناء الأزمة المالية منذ 15 عاماً). البنوك الأخرى، حسب ادعاء فاراج، ترفض فتح أي حساب له، بسبب ما روج عنه من البنك بين المؤسسات المالية، ما يجعله تائهاً في المجتمع، فجميع الفواتير وحسابات الضرائب والمرتبات وبطاقات الشراء وغيرها كلها تتم من خلال معاملات البنوك.
ولأسبوعين روجت صحافة اليسار ادعاء البنك أن إغلاق الحساب كان بسبب نقص ودائع فاراج عن الحد الأدنى (مليون جنيه). فاراج يضعه اليسار البريطاني، والعالمي، مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (2017 - 2021)، ورئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون (2019 - 2022) كرموز الكراهية المسؤولة عن خراب العالم، ويتهمونهم بالعنصرية، والإضرار بالبيئة، والزينوفوبيا (كراهية الأجانب)، والتشكيك في فاعلية التطعيم ضد الفيروسات، ومعاداة شرائح شاذة من المجتمع (الاتهامات لم
يستطع أحد إثباتها بالأدلة، لأنها جميعاً تخضع لقوانين مكافحة خطاب الكراهية وقوانين التأكيد على المساواة وحقوق الإنسان).
ادعاء البنك نشره المحرر الاقتصادي لـ«بي بي سي» على الموقع (الأكثر قراءة)، وكررته صحف اليسار التي أضافت وجود لائحة للبنوك لما يسمون بأشخاص لهم بروفايل عالٍ يعرض لمجازفات مالية.
اللائحة تعطي أمثلة برؤساء الدول، وزعماء الأحزاب والحركات السياسية، والمشاهير كنجوم الرياضة ونجوم هوليوود. التصنيف لا يتعلق بآرائهم أو مواقفهم السياسية، وإنما بوضعهم الاجتماعي، ما يجعلهم مجازفة مالية، لضرورة استخدام وسائل غير تقليدية لحمايتهم وحماية أقاربهم. فهم معرضون للابتزاز، أو اختطاف العصابات الإجرامية لذويهم مقابل فدية، أو اختراق قراصنة الإنترنت لحساباتهم، لكن ليس في اللائحة ما يتعلق بالآراء المثيرة للجدل أو المواقف السياسية. اشتكي نشطاء سياسيون آخرون من إلغاء مؤسسات مالية وبنوك لحساباتهم، مثل رئيس جمعية الدفاع عن حرية التعبير، وسيدة تحذر من تأثير مناهج الصوابية السياسية على الأطفال. كما ظهرت أيضاً شكاوى مماثلة من نشطاء حذروا على وسائل التواصل الاجتماعي من التلاعب بالاستقبال الذهني للظواهر (مثل القناعة شبه العمياء بأن التغير المناخي ليس ظاهرة طبيعية، بل هو من نشاط الرأسمالية، ومثل التأثير على الأطفال لتغير الهوية أو تغير الجنس).
النزاع أصبح مانشيتات صحف الأربعاء، بعد حصول محامي فاراج على «دوسييه داخلي» من بنك كوتس تضمن رسائل تبادلتها مديرة البنك مع لجنة تقييم الحسابات. الرسائل تبالغ وتهول من الاتهامات التي سردناها أعلاه، وتتهم فاراج بالعنصرية والتطرف وبما لا نستطيع نشره هنا قانونياً، ووصفته بترويج
أفكار لا تتماشي مع مبادئ البنك، كمبرر لإغلاق حسابه.
اتضح من التحقيقات الصحافية أن مصدر المحرر الاقتصادي لـ«بي بي سي» في نشره ادعاءات البنك كانت رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة، وهو عضو في مجلس اللوردات. فاراج يلوح بإجراء قضائي ضد البنك. ويطالب نواب البرلمان بتعديل اللوائح والقوانين لحماية المواطنين من البنوك، التي تمارس نشاطها بترخيص من وزارة المالية، وبإشراف بنك إنجلترا (البنك المركزي). رئيس الوزراء ريشي سوناك، قال الأربعاء في مجلس العموم: «نرفض أن تغلق أي مؤسسة مالية حساب شخص بسبب آرائه أو مواقفه السياسية».
مصادر «10 داوننغ ستريت» تشير إلى نية الحكومة الإسراع بتعديل اللوائح حيث تغلق الثغرات القانونية التي تستغلها البنوك كمبرر لإغلاق حسابات نشطاء أو ساسة أو شخصيات عامة يعبرون عن آراء أو لهم مواقف سياسية، تختلف مع الأرثوذكسية السائدة في المجتمع أو الثقافة الوطنية، التي هي اليوم موضة اليسار الليبرالي المسيطر على صناعة الرأي العام.
وقد يختلف الأمر عما نقصده بالأرثوذكسية السائدة في الرأي العام من مجتمع إلى آخر، لكن يظل جوهر القضية واحداً، وهو ما يعدّ الثقافة الوطنية أو المعتقدات الأكثر صواباً في تعريف المؤسسات المسيطرة (سواء سياسياً بالتركيبة الدستورية، أو لقوتها الاقتصادية، أو لسطوتها الثقافية أو الروحانية أو الدينية على أتباعها)، فتستغل سلطاتها لإقصاء من يطرح الأسئلة المشككة في هذه الصوابية، فهذه المؤسسات تخشى أن يعيد المفكرون والمثقفون فحص ما رُوج له على أنه من الثوابت والمسلمات في المجتمع.
(
الشرق الأوسط)