(تخفيف الأحمال)
يدخل الديكتاتور مندفعا إلى اجتماع مجلس الوزراء بينما
يناقشون أزمات البلاد:
- أوقفوا هذا الهراء، لا وقت لثرثرتكم.. فأمور الدولة
لا تحتمل التأجيل..
ثم يلتفت إلى رئيس الديوان قائلا: لقد وقّعت مرسوما عاجلا
ستجده في غرفة نومي، اذهب وأحضره، ثم ينظر للوزراء: لقد قررت إغلاق صوامع الحبوب
فوراً ومنع أي دعم للشعب.
* لكن..
- مفيش ولكن.. غداً ستبدأ المجاعة.. هذا قرار نهائي.
* لكن الشعب سيتألم وقد يتذمر..!
- شعب؟.. ألم يكن كلامي واضحا لك.. ليتألم من يتألم،
ويتذمر من يجرؤ.. قراري واضح ونهائي: المجاعة غداً.. أعرف أن ذلك كارثة، وقد قررت أن
تبدأ الكارثة غدا، ولن تنتتهي إلا في الموعد الذي أراه مناسباً. هذا برهان جديد
على أنني حر، وقد جرت العادة أن تكون حريتي على حساب حريات الجميع، هذا طبعا أمر
مهين، لكنكم تعرفون أن هذه الأمور المهينة صارت من طبيعة الأشياء في عهدي.
(المشهد التاسع في الفصل الثاني من مسرحية "كاليجولا"
بتصرف يسير في الترجمة)
(الإمبراطور لا يحب الكاذبين)
تأخر كاليجولا على اجتماع النبلاء، ولما سألوا عنه،
قالت خليلته سيزونيا: إنه يعاني من آلام شديدة في المعدة ويتقيأ دماً.
تحلق حولها النبلاء في اهتمام مبالغ فيه، وبدأوا فى
إظهار الخزن والتعاطف والتوسل إلى الآلهة طلبا لشفائه.
قال لوسيوس: يا آلهتي الرحيمة سأتبرع بمائتي ألف دينار
إذا منحتِه الشفاء.
وركع ليبيدوس على ركبتيه مبتهلا: يا إلهي جوبيتر..
امنحه الشفاء، وأنا أفديه بحياتي.
كان كاليجولا يقف في ركن قرب الباب يسمع كلام النبلاء،
ثم دخل فجأة وهو يقول:
قبلتُ هديتك يا لوسيوس، سيمر عليك مسؤول الخزانة غدا
لتحصيل المائتي ألف دينار، فقد استجابت الآلهة لنذرك. ثم عانق ليبيدوس وهو يسأله
بتأثر: أتحبنى إلى هذا الحد يا ليبيدوس؟
قال النبيل بحماس: نعم يا سيدي القيصر، ومهما ضحيت في
سبيلك يبقى قليلا.
يعانقه الإمبراطور مرة ثانية وهو يقول: أوه يا عزيزي..
هذا كثير، فأنا لست أهلا لهذا الحب العظيم.
ويشير الإمبراطور لاثنين من الحراس قائلا: خذوه، لكن
ترفّقوا به، لأنه يحبني.. اذهب معهم يا عزيزي وتذكّر أن قلبي معك.
يسأله ليبيدوس منزعجاً: لكن إلى أين يذهبون بي؟
يرد الإمبراطور: إلى الموت يا عزيزي.. ألم تهبني حياتك
فداءً لحياتي؟ لقد قبلت هديتك.
يولول ليبيدوس وتسري همهمات، فيتوجه كاليجولا لبقية
النبلاء قائلا: الحياة صديقة صادقة، لذلك لا يجب أن لا يتعامل معها أحد باستخفاف، فعندما
تخسر يجب أن تدفع.
يؤرقني سؤال في قصة محاسبة الطاغية لمساعديه الكاذبين:
لماذا توقف الديكتاتور عند أكاذيب المنافقين وعاقبهم عليها، ولم يبرر لنا أكذوبته الواضحة؟!.. ألم يكن كاليجولا نفسه يكذب عندما أمر سيزونيا بأن تبلغ النبلاء بقصة مرضه المزيف؟!
(المشهد التاسع في الفصل الرابع من مسرحية كاليجولا)
(الطغاة صادقون في أكاذيبهم)
كان كاليجولا طاغية وصل إلى درجة متقدمة من الجنون
الدموي، لكنهم يشيعون في كتب التاريخ وفي الأعمال الأدبية أن جنونه لا يخلو من
الحكمة والفلسفة، وكان المعجبون بجنونه يرددون ما يقوله عن نفسه بأنه صادق وأمين
وشريف، لذلك لم يقبل أن يتفوه أحد مساعديه بكلام لا يقدر على الوفاء به، فالإنسان الجيد
يجب أن يتحمل مسؤولية ما يقول، ولا يكذب في حديثه ووعوده.
يعجبني هذا الكلام عن المسؤولية، وأعتبر أن
الصدق في
العهود فضيلة تستحق التقدير، حتى لو كان صاحبها ديكتاتورا، لكن يؤرقني سؤال في قصة
محاسبة الطاغية لمساعديه الكاذبين:
لماذا توقف الديكتاتور عند أكاذيب المنافقين وعاقبهم
عليها، ولم يبرر لنا أكذوبته الواضحة؟!.. ألم يكن كاليجولا نفسه يكذب عندما أمر
سيزونيا بأن تبلغ النبلاء بقصة مرضه المزيف؟!
أتذكر مشهدا معاصراً حدث قبيل الانتخابات الرئاسية
الأولى التي خاضها المشير عبد الفتاح
السيسي، فقد أدار الإعلامي يسري فودة مناظرة
بيني وبين الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في برنامجه "
مصر تنتخب"، كان
حجازي يدافع عن ترشح السيسي باعتباره المنقذ والمخلّص لمصر من خطر الإرهاب، وكنت أعارض
الترشح احتراما للعهد الذي قطعه المشير على نفسه وعلى المؤسسة بعدم الترشح، والذي
قال فيه بالحرف: "لن أترشح للرئاسة، ولن أسمح للتاريخ بأن يكتب أن جيش مصر
تحرك من أجل مصالح شخصية".
دار نقاش طويل شارك فيه جمهور الأستوديو عن حق كل شخص
في الترشح ما دام الدستور لا يمنع، وتكاثرت مداخلات الجمهور لتبرير ترشح المشير،
فقلت منهيا النقاش مستنكرا بلهجة حادة ومتسائلة: من عادتي أن أصدق الرجال، فإذا
تعهد أحد بموقف ثم خالفه، فكيف أثق به بعد ذلك؟
(أوعوا تكونوا مش مصدقين)
الصدام بيني وبين الأستاذ حجازي سبقه موقف آخر أكثر
وضوحا، أعود إليه بالتفصيل والتوثيق للتأكيد على المعنى (البعيد/ القريب) الذي
يذهب إليه المقال..
الزمان: السادس من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2013م
المكان: ملعب الدفاع الجوي
يقف المشير عبد الفتاح السيسي بالزي العسكري المثقل
بالنياشين والأوسمة والرمزيات، ويتحدث في ذكرى انتصار حرب أكتوبر وسط قيادات سياسية
وعسكرية مصرية وعربية ونجوم فن وثقافة وخلافه، فيقول بالحرف في الخطاب المشهور بـ"خطاب
نور عينينا":
"بعد الهزيمة سنة 67 الشعب المصري ده*، لم يتخلَ
أبداً عن جيشه، ولا أبداً أبداً فكّر يكسر خاطر جيشه، ومش بس كده، قعد 7 سنين
تقريبا يحرم نفسه من كل حاجة، وكان عايش بالطابور عشان يوفر للجيش.. تفتكروا
العلاقة دي حد ممكن يعني يدخل فيها.. يدخل بينها يعني.. بينّا وبين المصريين؟ انتو
مش عارفين ان انتو نور عينينا وللا ايه؟
صحيح.. (تصفيق وتهليل)
صحيح، احنا ما بننساش.. خللوا بالكم احنا اتعلمنا
كده.. اتعلمنا كده في الجيش: ان احنا لا ننسى أبداً.. ولا يمكن ننسى وقفتكوا معانا،
عشان كده قبل انتوا ما تتألموا.. احنا نموت الاول، لكن انتو ما تتألموش.
(لماذا لم تموتوا؟)
رجل نحيل يرتدي ملابس الإمبراطور كاليجولا، يدخل
مندفعاً إلى اجتماع مجلس الوزراء، ينظر للوزراء بشفقة وتجاهل، ثم ينظر باتجاه الزي
العسكري المعلق على شماعة في قاعة الاجتماع: مش قلتوا مش هننسى وقفتكوا معانا؟..
مش قلتوا تنقطع إيدينا قبل ما تتمد عليكم؟.. مش قلتوا قبل انتوا ما تتألموا.. احنا
نموت الأول، لكن انتو ما تتألموش.
طيب احنا بنتألم يا سادة، بنعاني من تخفيف أحمالكم
علينا.. بنعاني من تحميل الأخفاف.. من تحميل الأفخاخ.. من المجاعة.. من انقطاع
الكهرباء.. من انقطاع الأمل، من خسارة الأمان، من سرقة الفرح، من اغتصاب الحرية..
بنتألم جداً يا صادقين، بنتألم يا شرفاء، بنتألم يا أصحاب الذاكرة الحية التي لا
تنسى الوقفة الجدعة في 67.. فلماذا تركتونا نتألم ولم تموتوا كما عاهدتمونا أمام
وزراء الدفاع العرب ورئيس وزراء الردن وعيون العالم كله على الهواء؟.. لماذا لم
تموتوا عشان احنا ما نتألمش أكتر من كده؟".
(الذاكرة المثقوبة)
في "خطاب نور العيون" في خريف 2013 قال
المشير السيسي أيضا بالحرف:
في ذروة جنون العظمة يستدعي الطاغية حكمته القديمة: عندما تخسر يجب أن تدفع، ثم يضيف إليها إضافته الجديدة الصريحة.. الصادقة في كذبها: وعندما أخسر أنا، يجب أن تدفع أنت أيضاً.. وبهذه المناسبة خطرت على ذهني فكرة رائعة وأريد أن اشرحها لكم: لا توجد دولة بلا مشاكل كبيرة، ولا يوجد شعب بلا محن عظيمة، لذلك قررت أن أكون أنا مشلكتكم الكبيرة ومحنتكم العظيمة، فمن واجبي أن أبتليكم
"وإذا كانت مصر هتبقى أد الدنيا، فاعملوا حساب
لليوم ده.. اعملوا حساب لليوم ده".. (تصفيق وتصفير وتلويح بالأيدي المفتوحة
دليل العزم والقوة).
يواصل المشير منتشياً: "أوعوا تكونوا مش مصدقين
ان مصر مش هتبقى أد الدنيا.. لااا.. دي هتبقى أد الدنيا.. صحيح، وبكره تشوفوا.. والصُغَّير
منكم يبقى يفتكر الكلام ده عني: هتبقى أد الدنيا".
يحرضنا المشير على التذكر، كما أكد من قبل أن الجيش علمهم
عدم النسيان..
فلماذا هجم النسيان على كل شيء؟
لماذا غطت الضرورة على الوعود والعهود؟
لماذا انطفأ نور العيون؟
لماذا انقلب كاليجولا إلى وباء يعاني منه الجميع إلا
هو؟..
في ذروة جنون العظمة يستدعي الطاغية حكمته القديمة: عندما
تخسر يجب أن تدفع، ثم يضيف إليها إضافته الجديدة الصريحة.. الصادقة في كذبها: وعندما
أخسر أنا، يجب أن تدفع أنت أيضاً.. وبهذه المناسبة خطرت على ذهني فكرة رائعة وأريد
أن اشرحها لكم: لا توجد دولة بلا مشاكل كبيرة، ولا يوجد شعب بلا محن عظيمة، لذلك
قررت أن أكون أنا مشلكتكم الكبيرة ومحنتكم العظيمة، فمن واجبي أن أبتليكم.. سأتنازل
وأقوم في حياتكم بدور الوباء، والآن.. اخرسوا.
(فكرة الوباء وردت في نهاية المشهد التاسع من الفصل
الأخير في مسرحية كاليجولا قبل مشهد الاغتيال بقليل)
ــــــــــــــــــــــ
هامش على الهامش:
تعبير الشعب المصري "ده" يغرس شوكة في ذاكرتي
القريبة، تذكرني بالوصف المؤلم الذي كتبته أمنية البحر درويش عن والدها: سيشهد
التاريخ أن "ده" بقى إيمان البحر درويش. كلمة "ده" تخبرنا
بالكثير، وأخطر ما فيها عدم الاعتراف بأن هذا الـ"ده" له قيمة.. أمنية
لا تعترف أن "ده" هو الإنسان الوسيم العطوف الذي عرفته كأب وفنان تفخر
به، وكلمة "ده" في الخطبة تعكس نفس النظرة للشعب الذي كان شعبا عظيما يقبل
العيش بالطابور من أجل قضية يؤمن بها، ثم صار مجرد "ده".. شيء مهمل ملقى
كجثة على سرير المرض، شيء مهمل داخل زنزانة بلا حقوق.. شيء محاصر بلا معنى في أسانسير
بتهمة تخفيف الأحمال.. شيء يتألم بلا ذنب، أو كما قال هيلكيون: شيء يتألم ويعاني،
لأنه مذنب، فذنبه الجسيم أنه من رعايا كاليجولا.
[email protected]