قبل شهور مرت، كانت
الجزائر دائما ما تنفي وجود وساطات بينها وبين
المغرب، وتعبر عن رفضها لإعادة
العلاقات مع الرباط إلى وضعها الطبيعي، وتشترط جملة شروط من أجل ذلك، وكانت هذه
الشروط تتغير، لكن بعد إعلان وزير الخارجية
القطري عن وساطة قطرية بين البلدين، لم
يصدر أي تعليق رسمي ولا حتى إعلامي مقرب من السلطة من الجانب الجزائري.
وزير الخارجية القطري،
ماجد الأنصاري، جمع في تصريحه الدبلوماسي الذكي ثلاث إشارات متباينة، تكشف من جهة
استعداد قطر لإجراء وساطة بين البلدين، ومن جهة ثانية، عدم وجود هذه الوساطة في الحال،
ومن جهة ثالثة، تفسير البرقيات التي تواترت على أمير البلاد من طرف الرباط
والجزائر على أنها تتعلق بالعلاقات الثنائية بين قطر والجزائر من جهة، وبين الدوحة
والرباط من جهة أخرى.
تفسير هذه الإشارات
المتباينة واضح، فالرجل، يريد أن يبقى وفيا لنهج قطر في تدبير الوساطات، أي إنضاج
النار على مهل، في جو من الهدوء والسرية، حتى تنضج الشروط، ويُصبح بالإمكان الوصول
إلى نتائج إيجابية، وفي الوقت ذاته، فهو يقدر ويتلافى حساسية الموقف المتعلق
بالطرف المبادر لطلب الوساطة، وهل يتعلق الأمر بالجزائر أو بالمغرب، ولذلك، يجري اليوم
على مستوى إعلامي جدل جزائري ومغربي كبير على مستوى تفسير برقيات الرباط والجزائر
لقطر ومن يكون المبادر لطلب الوساطة.
الذكاء الدبلوماسي
القطري أضاف بقصد إلى هذه التصريحات (نفي وجود وساطة حالية، والإعراب عن الاستعداد
لإجرائها) النجاحات التي حققتها قطر في مجال الوساطات، سواء تعلق الأمر بالتسوية
بين واشنطن وكابل، وتأمين خروج القوات الأمريكية منها، أو الوساطة بين أمريكا
وإيران، وغيرها من الملفات التي كان وراء نجاح التسوية فيها دور قطري مميز. فكل
هذه الملفات، انخرطت فيها قطر بسرية تامة، واشتغلت على الوساطة، حتى تم الإعلان
بشكل مفاجئ عن التوصل لحل وتسوية بين الطرفين.
ولذلك، بعيدا عن سؤال
وجود هذه الوساطة أم عدم وجودها، أو سؤال الطرف المبادر إلى طلبها، وأيضا بعيدا عن
سؤال تأثير التغييرات التي حصلت في منطقة الساحل جنوب الصحراء على أحد طرف الصراع،
وإلجائه إلى طلب الوساطة، فقد بات شبه حتمي، وجود معضلة في المنطقة، تتطلب حلا،
وأن الحل لا يمكن أن يتأتى باستمرار الخلاف بين المغرب والجزائر، لاسيما في قضية
الصحراء.
بيان ذلك، أن كل القوى
العظمى في المنطقة باتت في معضلة، فروسيا التي استثمرت القمة الروسية الإفريقية
لتقوم بخطوة سريعة في اتجاه إخراج النفوذ الفرنسي من الساحل، بدعم انقلاب عسكري
بالنيجر، أضحت غير متأكدة من الدعم اللوجستي الجزائري، فالجزائر لا يمكن أن تغامر
بأمنها واستقرارها في سبيل تمكين موسكو من التمدد بهذا الشكل في المنطقة، وعبر
أسلوب الانقلابات العسكرية وبما يهدد بشكل مباشر حدودها، بل أضحت محاصرة من
اتجاهين، اتجاه مجموعة الإكواس التي تسارع الخطى من أجل اتخاذ قرار ما في اتجاه
نوع من التدخل العسكري في النيجر بعد موقف الرفض الذي أبداه الاتحاد الإفريقي،
وفرنسا التي تبحث عن خيارات لتأمين وجودها العسكري ومصالحها الاستراتيجية في
المنطقة.
باريس، توجد في معضلة
أكبر، فقد تعرض نفوذها لنكسة كبيرة، وبشكل متوال، مالي ثم بوركينا فاسو فالنيجر،
دون أن تكون لها علاقات إقليمية مستقرة تساعدها على الفعل، فعلاقاتها مع المغرب
متوترة، وعلاقاتها مع الجزائر لم تستعد عافيتها بعد، فلا هي ضمنت الغلاف الجوي المغربي،
لتأمين عملية عسكرية ضاربة في النيجر، ولا هي نجحت في جر الجزائر إلى مربع القبول
بتدخل عسكري في المنطقة لاستعادة مصالحها وحماية قواتها هناك.
الولايات المتحدة
الأمريكية تعيش هي الأخرى معضلة من نوع آخر، في جانبها الأول، فقد أضحت مضطرة إلى
النظر إلى مصالحها وقواعدها الخاصة بالنيجر بمعزل عن متطلبات تحالفاتها، فهي تتصرف
كطرف يرعى مصالحه لا كطرف حليف لفرنسا، وهو ما يمكن أن يعرض توافقاتها مع باريس في
مناطق أخرى مثل أوكرانيا للاهتزاز ردا على التصرف الأمريكي في النيجر. وهي من جانب
آخر، تستبعد الخيار العسكري، ولا يهمها عودة الرئيس السابق محمد بازوم، لكنها لا
تريد أن تترك قادة الانقلاب على أريحيتهم ينفذون ما يبدو لواشنطن توسيعا للنفوذ
الروسي في المنطقة، وهي من جانب ثالث، تبحث عن خيارات إضعاف قادة الانقلاب، وتأمين
الاستقرار في المنطقة، بما يحمي مصالحها القديمة ويضمن مصالح جديدة، أي أنها تشتغل
على ثلاثة محاور، محور مع الإكواس للضغط على قادة الانقلاب لتأمين مصالحها، ومحور
للتفاوض مع الجزائر، لاستثمار التهديدات المباشرة التي يمكن أن تلحق حدودها، وذلك
للي ذراعها وإبعادها عن المحور الروسي، ومحور ثالث، استراتيجي، تسعى من خلاله إلى
خلق شروط سد للمنافذ على موسكو لمزيد من التوسع في المنطقة وضمن هذا المحور
الثالث، يندرج مطلب المصالحة بين الرباط والجزائر.
كثيرون تفاجأوا من
مضمون الحوار الذي دار بين وزير الخارجية الأمريكي بلينكن ووزير الخارجية الجزائري
أحمد عطاف، وتفاجأوا أكثر من استفسار الجانب الجزائري عن الموقف من الصحراء.
الجانبان الأمريكي
والجزائري، حرصا على نقل التصريحات الرسمية التي تم اعتمادها بين الطرفين، والتي
تتحدث عن جوانب التعاون القائمة والمرجوة، دون إدماج لقضية الصحراء، أو الاكتفاء
بالتذكير بمسار التسوية الأممي الذي ينتظر القضية، لكن في الجوهر، لا يخفي الجانب
الأمريكي، أن الرؤية الأمريكية لعودة الوضع الدستوري في النيجر، وتأمين الاستقرار
في المنطقة، ومحاصرة النفوذ الروسي، هي نهاية التوتر بين الرباط والجزائر، وتسريع
إنهاء ملف الصحراء، وإقامة علاقات طبيعية بين البلدين، وتعميق الشراكة الأمريكية
بين الطرفين، حتى تؤمن واشنطن، الشروط الضرورية لغلق المنافذ على موسكو.
المؤسسة العسكرية
الجزائرية تعيش حالة من التأرجح، بسبب تعدد النزوعات، فالمكون الوطني داخلها يرى
ضرورة التفكير فقط في مصلحة الجزائر وتأمين حدودها، والمكون القريب لباريس، لا
يمانع في تقديم دعم لوجستي لفرنسا من أجل حسم الموقف في النيجر بإعادة الرئيس محمد
بازوم للحكم، والمكون الحليف لروسيا، يعيش أعلى حالات التوتر، بسبب التعارض بين
تقديم الدعم اللوجستي لموسكو، وبين تقدير المصلحة الوطنية للجزائر في مواجهة مختلف
التهديدات.
الخيار القريب إلى جمع
هذه المكونات، والتخفف من الضغط الدولي، وتأمين حالة من الأمان من التهديدات
المباشرة التي يمكن أن تؤثر على استقرار الجزائر، هو الحوار مع واشنطن، والتفاوض
معها، لكن من داخل رؤيتها، وهو ما يستدعي من الجزائر، أن تقدم ما يبين موثوقيتها
في هذا الحوار، أي جديتها في مصالحة مع المغرب، تقنع واشنطن أن جانبا مهما من
استراتيجيتها أخذ طريقه إلى التنفيذ، وأن الجزائر جادة فعلا في تأمين الاستقرار في
المنطقة، وأنها وإن كانت حليفة لموسكو، فإنها لم تقم بأي دور في تغيير الخارطة
السياسية لبعض دول الساحل جنوب الصحراء، عبر الدعم اللوجستي السري لقادة الانقلاب
في هذه الدول.
ولذلك، لا يبعد أن
يكون الإعلان القطري عن الاستعداد لإجراء وساطة بين البلدين، يندرج ضمن هذا السياق
الاستراتيجي، ولا يبعد أن يكون تقييم ملك المغرب في خطاب العرش الماضي للعلاقات
الجزائرية المغربية بأنها مستقرة، بأنها محاولة لتذويب الجليد، وإعطاء إشارة ما
إلى أن ديناميات جدية تجري على الأرض، لجعل المصالحة بين البلدين ممكنة.
القدس العربي