عام 1947 ظهرت مسرحيةُ تِنِسِّي وليامز (
عربةٌ اسمها الرغبة A Streetcar Named Desire). تدور أحداثها حول الأرستقراطية الجميلة (بلانش دوبوا) التي تنتقل للعيش مع أختها وزوج أختها المنتمي إلى الطبقة العاملة في شقّةٍ متواضعةٍ في نيو أورليانز. وتخبر بلانش أختَها (ستِلّا) وزوجَها (ستانلي) بسلسلةٍ من الأكاذيب عن سبب انتقالِها للعيش معهما، وتشهَدُ نمطَ حياتهما الفظّ المختلِف عن الصورة التي تتخيّلُها للحياة السعيدة.
وتدريجيًّا نكتشفُ أنّ (بلانش) قد طُرِدَت من عملِها كمعلِّمةٍ للُّغة الإنـﮕـليزية إثرَ فضيحةٍ حيثُ ضُبِطَت تغازلُ طالبًا بالفصل الدراسيّ وهي منفردةٌ به، وأنّها قد فقدَت البيت والمزرعة المملوكَين لأسرتها لصالحِ الدّائِنين. تتكرر مشادّاتُها مع زوج أختها، ويحدثُ تقارُبٌ بينها وبين (مِتشِل) صديقِه ورفيقِه في جلسات القِمار، حتى إنهما يقرران أن يتزوّجا.
نعرفُ أنها أرملةٌ وأنها قد تزوجَت في سِن صغيرةٍ، ثُمّ انتحر زوجُها (آلان) حين ضبطَته مع رجُلٍ يكبُرهُ سِنًّا وعرفَت مُيولَه الجنسيّة المِثليّةَ وأعربَت له عن احتقارِها إيّاه. ثمّ يسمعُ ستانلي بفضيحة بلانش مع طالبِ الثانويِّ، وفضيحة عَيشِها في فندقٍ ارتبطَ اسمُه بالدِّعارة، ويكرر ما سمعه لستِلّا ومِتشِل، فيُنهي بذلك أملَ بلانش في الزواجِ بهذا الأخير.
تتدهور الحالةُ العقليّةُ لبلانش إثرَ ذلك، وفي ليلةٍ تُحتَجَز ستِلّا في المستشفى لاقتراب ميعاد وَضعِها مولودَها الأوَّل، ويعودُ ستانلي وحدَه إلى البيت ليجد بلانش التي تتخيّل أنّ أحدَ معجَبيها السابِقين قد طلبَ الخروجَ معها وأنّ متشِل اعتذر لها وطلبَ أن يعودا إلى مشروع زواجِهما وأنّها رفضَته، وتخبرُ ستانلي بذلك فلا يلبثُ أن ينفجرَ فيها ساخرًا من أكاذيبِها وغطرستِها، ثُمّ يُوحي إلينا تنسّي وليامز بأنّ ستانلي قد اغتصبَها بعد أن حاولَت مقاومتَه وفشِلَت. تنتهي المسرحيّة بمجيء طبيبٍ نفسيٍّ وممرّضةٍ لأخذ بلانش إلى مستشفىً نفسيٍّ، وبعد محاولةٍ منها للمقاومةِ تُذعِنُ للطبيب قائلةً إنها كانت دائمًا تعتمِد على طِيبة الغُرباء.
ومن الصعب أن ينسى عُشّاقُ السينما التجسيد السينمائيّ الأوّل لهذه
المسرحية، في الفيلم الذي أخرجه إليا كازان عام 1951 من بطولةِ (ﭬـيـﭭـيان لي) في دور (بلانش)، ومارلون براندو في دور ستانلي و(كِم هَنتر) في دور ستِلّا. لكنّنا هنا سنتحدث عن ثلاثة أفلام
مصرية مستوحاةٍ من هذا النص المسرحي، وهو رقم لافِتٌ بالنظر إلى أن النص أمريكي يتحدث عن بيئةٍ أجنبيّةٍ، إلا أنه يبدو أن لهذا النص سحرَه الخاصّ الذي تصعبُ مقاومتُه. وسنتحدثُ عن جانبٍ من هذا السِّحر في نهاية المقال.
1- انحراف:
إنتاج 1985، من سيناريو مصطفى محرّم وإخراج تيسير عبّود. جسّدت مديحة كامل دور (سميحة)/ بلانش، فيما قامَت نورا بدَور (هدى)/ ستِلّا، ونور الشريف بدور (حسن)/ ستانلي، وصلاح السعدني (كمال)/ مِتشِل. وقد اقترب هذا
الفيلم من تفاصيل النّصّ الأصلي. وإن كان قد تحاشى إثارةَ مسألة المِثليّة الجنسية لزَوجِ بلانش المنتحِر، فدارَ حولَها جاعلًا سبب الانتحار جنسيًّا أيضًا، فالزوج هنا (علاء) كان يعاني الضعف الجنسي.
وفي مشهد بينه وبين مديحة كامل نعرف أنه قد تردد على عيادات الأطباء لهذا السبب دون جدوى، ومن الواضح أنّ امرأته تنفر منه تدريجيًّا حتى إنها في مشهدٍ آخر تواجهه بقَولِها إنه قد مات بالنسبة لها منذ وقتٍ طويل. ومن الواضح أنّه يعاني فشلًا مهنيًّا كذلك، وفي محاولةٍ للخروج من الأزمة المالية الطاحنة التي تهدد العائلةَ بالكاملِ يستعينُ بصديقٍ له (طارق النهري/ كرم) متمكّنٍ من إدارة الأعمال الاستثمارية، فيتقرّب (كرم) من (سميحة) وتنشأ بينهما علاقة جسديّة، وحين يضبطهما (علاء) ينتحر مِن فَورِه.
2- الفريسة:
إنتاج 1986 وسيناريو عصام الجمبلاطي وإخراج عثمان شكري سليم. هو الأبعَد في حبكته وتفاصيلِه عن النّصّ الأصلي، حيث يُظهِر عداوةً جانبيةً في بداية
الفيلم بين والد الفتاتين (أحلام)/ بلانش و(نشوى)/ ستِلّا من جهةٍ، ووالد (طارق)/ آلان مِن جهةٍ أخرى، وهي عداوةٌ تنشأ عَقِبَ انتحار (طارق)/ آلان - الذي يجسّدُه (يوسف فوزي) - لعجزه الجنسيّ، حيث يعتقد والدُه أنّ (أحلام) تسببت في موتِه فينتقِم لابنِه بحَرق مصنع أبيها الذي يموت من الصدمة وتُباع ممتلَكاتُه للدائِنين.
هكذا غازل السيناريو ما هو مستقِرٌّ في الذائقة المصرية التي اعتادَت في فترة الثمانينات مِثلَ هذه الحبكات القائمة على صراع رجال الأعمال، كما تجنّب بدَوره موضوع المِثلية الجنسية مائلًا به إلى العجز الجنسي. إلا أنّه من اللافِت أنّه خَلقَ لشخصيّة (طارق) مَيلًا فنّيًّا فجعلَه عازفَ بـيانو ماهرًا، وجعل ذلك تُكَأة تطوُّر العلاقة بينه وبين (أحلام) – التي جسَّدتها سهير رمزي - التي تُعجَب برهافة حسِّه وثقافتِه، ويُخفي هو عنها إصابتَه بمرَضٍ عصبيٍّ من أعراضه ذلك الضعف. ويَلوحُ لي أنّ هذا المَيلَ الفنّيّ أثرٌ بقي في وعي الجمبلاطي مِن شخصيّة (آلان) الأصلية، إذ ارتبطَت المِثلية الجنسية بالحساسية الفنّيّة في مخيّلةِ كثيرٍ من مُبدِعي الدراما.
لكنّ هذا الفِيلم جرى على سَنَن سابقِه (انحراف) في جَعلِه الشابّ الذي يتزوّج ستِلّا (نشوى) – التي جسَّدَتها هنا سماح أنور - سائقَ أسرتِها الغنيّة، وهو اختيارٌ مستحدَثٌ بالنسبة لنَصّ المسرحية الأصلي. غيرَ أنّ (الفريسة) جاء الأكثر مغازَلةً للذائقة المُحافِظة، فجعل البطلةَ (أحلام) لا تتورّط في أية علاقات جسديّة محرَّمة، بل نتبيّن من سَير الأحداث أنها كانت تتقرّب من الرِّجال وتُوهِمُهم بأنها مازالَت تلك الفتاة الثريّة لتبتزَّهم ماليًّا فحَسب، وأنها كانت ترفضُ بشِدّة كُلّ محاولةٍ لاستغلالِها جسديّا.
اظهار أخبار متعلقة
كما تجلّت مغازلة الذائقة المحافِظة كذلك في موضوع هامشي في بداية الفِيلم، حيث ينمى إلى علم والد الفتاتين أنّ صغراهما نشوى على علاقة بشخص لا نراه في الفيلم وإنما نسمع اسمه "شريف ابن الدكتور رمسيس"، وهو أمر يُغضِب الرجُل للغاية فيطلب من السائق (فاروق الفيشاوي) مراقبتَها.
ولأنّ اسمَ الرجُل (عثمان) نستنتج أنّ الأسرة مسلمة، فيما يرجح لدينا أنّ "شريف" مسيحي لانتشار اسم رمسيس بين العائلات المسيحية المصرية. وتتجلى هذه المغازلة أيضًا في انتهاء الفِيلم نهايةً سعيدةً، إذ قتلَت (أحلام) زوجَ أختها الذي قام بدوره فاروق الفيشاوي دفاعًا عن شرفها إزاء محاولتِه اغتصابَها، ثُمّ برّأَت المحكمة ساحتَها لتعود ومعها أختها وطفلُ أختِها الوليد إلى بيت أبيهما، وقد ورثَ الطِّفلُ جدَّه الغنيَّ الذي مات وبلغ خبرُ وفاتِه ابنَه (الفيشاوي) قبل أن يلفظ أنفاسَه الأخيرة.
3- الرغبة:
إنتاج 2002. كتب السيناريو رفيق الصّبّان وأخرجه علي بدرخان. هنا جسدت نادية الجندي شخصية (بلانش/ نعمت)، وجاءت إلهام شاهين في دور (ستلّا/ ليلى)، فيما جسّد ياسر جلال شخصية (ستانلي/ حسام) وصلاح عبد الله شخصية (مِتشِل/ عبد الفتّاح). وجاء
الفيلم قريبا في كثيرٍ من تفاصيلِه من النّصّ الأصلي، لكنّه بدَورِه تصرّفَ في مسألة المثلية الجنسية لزَوج (بلانش) الراحل، فجعلَ خطيبَ (نعمت) الراحل (شادي) رجُلًا وسيمًا لا يكتفي بامرأةٍ واحدةٍ وإنما يُغازلُ مَن حولَه من النساء، وحين تضبطُه نعمت يغازلُ إحداهُنّ في نادٍ ليليٍّ تترُكه مُغضَبةً، فلا يلبث أن يحاول اللَّحاقَ بها، فتدهسُه سيارةٌ وهو يَقطع الشارع، ويظلّ هذا الحادث يؤرّق نعمت وتنتابُها ذِكراه باستمرارٍ، إذ تعتقد أنّها سببُ موتِه.
كما تصرّفَ السيناريو تصرُّفًا آخَر لافتًا، فإنّ بلانش في النّصّ الأصليِّ تعملُ كمُدرّسةٍ للُّغة الإنـﮕـليزية، فيما تَحشُرُ في أثناء حديثِها مع الجميع جُمَلًا بالفرنسيّة، علامةً على ثقافتِها الرفيعةِ ورِقّتِها من جِهةٍ (فهذا هو الدّورُ الذي لَعِبَته اللغة الفرنسيّة في المُخيِّلة الجَمعيّة مِن قديمٍ ومازالت تلعبُه بدرجةٍ ما)، وعلى انتشار الفرنسيّة كلُغةٍ أولى أو ثانيةٍ في الجُزء الذي أتَت منه من جنوب الولايات المتّحِدة من جِهةٍ أخرى. أمّا نِعمَت هنا فهي مدرّسةٌ للُّغة الفرنسيّةِ أساسًا، ومِن ثَمّ فهي ترُدُّ بالفرنسيّة في أحيانٍ كثيرةٍ على أُختِها، ما يكرّسُ اعتدادَها بثقافتِها وحرصَها على التمسُّك بأهدابِ طبقتِها الأرستقراطيّة.
اختيار الممثِّلين:
انحاز المُخرجون الثلاثة (تيسير عبّود وعثمان شكري سليم وعلي بدرخان) إلى المواصَفات الجسديّة التي يقترحُها النّصّ الأصليُّ والفِيلم الأمريكي الأشهر لشخصيّات الحكاية. ففي الظهور الأوّل لبلانش في النّصّ يخبرُنا (وليامز) عنها: "ثَمّ شيءٌ في أسلوبِها المرتبِك – إضافةً إلى ملابسِها البيضاء – يقترِحُ على الناظرِ إليها صُورةَ الفَراشة." فيما يتبادَرُ إلى ذهنِنا بناءً على سلوكِ (ستِلّا) الذي لا يشوبُه ارتباكٌ أنّ حضورَها يوحي بالهدوء والميل إلى الاستقرار والدفء العائليّ.
وهذا التقابُلُ هو ما ترجمَه إليا كازان إلى صورتَي (ﭬـيـﭭـيان لي) و(كِم هَنتر)، بالحُضور الصاخِب المُثير للاضطراب على الأصعدةِ كافّةً للأولى ومواصفاتِها التي جعلَتها أيقونةَ إغراءٍ – وإن كان إغراءً أرستقراطيًّا متعاليًا – في مقابلِ الحُضور المتواضعِ للثانيةِ ومواصفاتِها الجسديّة الموحِية بالدفء والهدوء (الامتلاء النسبيّ مقارَنةً بما تبدو عليه ﭬـيـﭭـيان لي).
وهذا بالضبط ما حدثَ في كُلٍّ من (انحراف) و(الرغبة)، فقد اختارَ مُخرجاهما مديحة كامل ونادية الجندي على الترتيب لدور الأخت المضطربة، ربّما موظِّفًا لهذا الغرَضِ طُولَ الأولى وخِفّةَ وزن الثانية نسبيًّا للإيحاء بذلك الحُضور (الفَراشيّ) المرتبِك، في مقابلِ نُورا وإلهام شاهين ذواتَي المواصَفات الموحية بالهدوء والاستقرار. ويَصدُق الأمرُ نفسُه على سهير رمزي في (الفريسة)، وإن كان نُحولُ سماح أنور في دور الأخت المستقرّةِ لَم يمنع أن يُوحيَ حضورُها إجمالًا بذلك الاستقرار.
اظهار أخبار متعلقة
أمّا نور الشريف وفاروق الفيشاوي وياسر جلال فقد أسهمَت مواصفاتُهم الجسديّةُ جميعًا في لياقتِهم لدَور الزوج المكافِح الذي لا يخلو من نوازعَ غير أخلاقيّةٍ، إذ كانوا جميعًا يتمتعون بجسدٍ رياضيٍّ مُوحٍ بقَدرٍ من الشيطنة بدرجةٍ ما أو بأخرى. وهذا في مقابلِ صلاح السعدني ومحمود الجندي وصلاح عبد الله، فالأول والثالث من هؤلاء أميَل إلى البدانة، والجندي مائل إلى القِصَر بالنسبة للفيشاوي، ما قد يوحي بالصُّورة الخُلُقيّة النمطيّة الملتصقة بهذه المواصَفات، ولا سيّما الطِّيبة الزائدة وسرعة التصديق.
أمّا الاختيار الثالث اللافِت فكان اختيارَ (جمال صالح) و(محمد مرزبان) للدَّور المقابل لـ(آلان) في (انحراف) و(الرغبة)، حيث يتميّز كلاهما بالملامح الأوربية والعينين الملوَّنَتَين. وربما نَبعَ هذا الاختيارُ من صُورةٍ نمطيّةٍ أخرى منطبِعةٍ في ذهنَي عبُّود وبدرخان، يتميّز بمُقتضاها الذَّكَر ذو المَيل الجنسيِّ المِثليِّ – أو الرَّجُل الذي يُعاني الضَّعفَ الجنسيَّ - بالوسامة المُفرِطة بمقاييس مجتمعِه، ربّما لأنّ هذه الوسامةَ تقرِّبُ الشخصَ من الأنوثة المرتبِطة في الأذهان بكَونِها مَعدِنَ الجَمال الجسديِّ مُقارَنةً بالذكورة. لكنّ (مرزبان) في النهايةِ نَجا من ذلك الدَّور حين قرَّرَ رفيق الصّبّان أن يَخرُجَ به إلى دَور زير النِّساء الوسيم.
أمّا يوسف فوزي في (الفريسة) فربّما اختِيرَ هو الآخَر لملامحِ وجهِه في تلك المرحلة من عُمرِه، إذ كانت ملامحُه تنطِقُ بالعصبيّة والتوتُّر، ما يتجاوَبُ ودَورَ الرجُل المُرهَف الحِسِّ الذي يُعاني مرَضًا عصبيًّا انعكسَ على أدائه في العلاقة الحميمة.