عندما تطرق بهيمراو أمبدكار، أول وزير للعدل في
الهند بعد استقلالها عن بريطانيا، والزعيم التاريخي «للمنبوذين» فيها، ثم المشرف، بل المدبج الرئيسي لمسودة الدستور الهندي (المقر عام 1949) إلى منصب رئيس الدولة بموجب هذا الدستور، لم يتردد بمطابقته مع موقع الملك في النظام الدستوري البريطاني.
كتب أمبدكار أن رئيس الهند هذا «يمثل الأمة لكنه لا يحكمها، بل هو عندها بمنزلة رمز». كان اعتماد هذا المنصب حيلة دستورية لاستمرار الهند في رابطة الكومنولث، دون إبقائها على الارتباط الرمزي بالتاج البريطاني، شأن كندا أو أستراليا. ومن ثم صار المنصب مساحة لتمثيل الحساسيات الدينية والإثنية الأقلوية، التي ليس لها حظ إلى رئاسة الوزراء.
وفي حين يتولى الوزير الأول، أو رئيس الوزراء، السلطة التنفيذية بموجب اعتماد الهند للنموذج الديمقراطي البرلماني، يكاد يقتصر مقام رئيس البلاد على الهالة الرمزية، المعنوية، التشريفية. ولو نظر إليه أيضا على أنه رمز لاستدامة النظام الدستوري وسريان مبدأ الفصل بين السلطات. مع أن هذه النظرة تصدعت يوم احتاجت رئيسة الوزراء أنديرا غاندي لتوقيع رئيس الدولة آنذاك فخر الدين علي أحمد ليلة 25 حزيران/ يونيو 1975 على انقلابها الأمني المتمثل بإعلان حال الطوارئ وسجن المعارضين لها، وتلك كانت أكبر انتكاسة يمنى بها النظام البرلماني في الهند في حقبة هيمنة «حزب المؤتمر»، وكان رئيس الدولة حينها غب الطلب.
لا تزال تجربة انقلاب 1975 تستحضر في الهند، لا سيما من طرف الحزب الحاكم فيها منذ عشر سنوات، حزب «بهاراتيا جاناتا» القومي الديني، الإحيائي الهندوسي، المشبع بعقيدة الهندوتفا.
هذه العقيدة ترى أن الهند هي الوطن المقدس للهندوس، وأنها بلاد منقطعة عن عصرها الذهبي منذ الفتوح الإسلامية فيها، وصولا إلى الاستعمار البريطاني، ومن ثم هيمنة «حزب المؤتمر» بعد الاستقلال، وقد آن لها استئناف أمجادها الحضارية والاقتدار من خلال النهضة القومية الإحيائية، التي تدمج على نحو كلي بين الرابطة الدينية والرابطة القومية، وتربط بين رابطة التراب الوطني، المعلن أرضا مقدسة، ورابطة اللغة، من خلال تعزيز لغة «الهندي»؛ باعتبارها الأقرب إلى اللغة السنسكريتية التي وضعت بها الكتب والملاحم المقدسة القديمة؛ إذ يسعى أولاد «الهندوتفا» إلى تعزيز لغة «الهندي» دونا عن سائر اللغات الإقليمية والمحلية، وعلى حساب اللغة الإنكليزية، التي وضع بها الدستور، والتي تُمثل – على نخبوية من يجيدها في الهند – الواسطة اللغوية الوحيدة للتواصل بين لغات الشمال «الآرية» أو «الهندو أوروبية» ولغات الجنوب «الدرافيدية». كذلك يرى أتباع خط الهندوتفا أن هيمنة حزب سلالة نهرو، حزب المؤتمر، طيلة القرن الماضي، كانت استمرارا للاستعمار الثقافي؛ إذ هي سلالة حاكمة متفرنجة، على الرغم من تحدرها البراهماني، وغريبة عن روح الشعب الهندوسي وعاداته، ومحابية للمسلمين. والمفارقة أن دعاية القوميين الإحيائيين ضد «حزب المؤتمر» ترميه سواء بسواء بأنه «حزب السلالة» المتعجرفة والفاسدة والمنافقة، وأنه بوابة «الماركسية الثقافية»، وهذه مقولة يُرشق بها في الهند اليوم الليبراليون قبل الماركسيين!
لقد تمكن حزب بهاراتيا جاناتا عام 2022، وعلاوة على هيمنته على السلطتين التنفيذية والتشريعية و«توغله» أكثر فأكثر في القضاء والجسم البيروقراطي للدولة، الأقرب تاريخيا لمزاج حزب المؤتمر، من إيصال محازبته دروبادي مورمو، إلى رئاسة الدولة ذات السمة الشرفية. ولهذا رمزيته. فمورمو ليست من أي من الطبقات الوراثية الأربع في المجتمع الهندوسي، بل هي من قبائل السنتال في شرق البلاد، التي جرى التعامل معها مطولا على أنها في منزلة «المنبوذين» الذين هم «تحت الطبقات الأربع». إيصال مدرسة من ولاية أوديشا المهمشة إلى رئاسة الدولة، جاء مصادقا لدعاية حزب القوميين الدينيين عن نفسه، بأن حزبه يعمل على المجانسة والإنصاف بين الهندوس. هو يميز بين الهندوس والمسلمين، لكنه يقدم نفسه على أنه يفتح مساحة واسعة للإنصاف وكسر حدة الهرمية الطبقية الوراثية لنظام الكاست. هذا بشرط أن يكون أبناء الطبقات الدنيا مستعدين للتخلق بأخلاق الطبقة الحبرية الدينية من البراهمة.
وهكذا، فلا نارندره مودي من البراهمة، بل من الطبقة الرابعة، الشودرة، ولا رئيسة الدولة الآن مورمو، القادمة من المجتمع القبلي المحتسب بالكاد في منزلة «المنبوذين» تاريخيا. والشيء بالشيء يقارن هنا، أمبدكار، «أب الدستور الهندي» الذي بدأنا به الحديث، لم يستطع التوفيق بين كونه زعيم أمة – طبقة المنبوذين، وبين بقائه على الهندوسية، فخرج منها واعتنق البوذية، وأسس في الأخيرة فرقة جرت على منواله. أما دروبادي مورمو وسواها، فيجيدون في اعتناق القومية الدينية لحزب بهاراتا جاناتا السبيل للاندماج في الكل الهندوسي، من خلال الدخول إليه من بوابة الغلو والإحيائية، التي لا يهدأ لها بال إلا بأن تؤصل كل أسماء المدن على سبيل المثال، بنحت كلمات أو باسترجاع أخرى، موافقة للسنسكريتية الميتة.
وعلى الرغم من أن الحزب الحاكم حجب مورمو عن افتتاح المقر الجديد للبرلمان الهندي المفتتح أواخر أيار/مايو الماضي، لصالح إبراز نارندره مودي فحسب، ما أثار جدلا في حينه، إذ ما نفع الرئيس التشريفي حين تغيب التشريفات، فإن الحزب الحاكم عاد فاستعان بمورمو بمناسبة قمة العشرين المعقودة في نيودلهي الحين، هذا عندما أرسلت الدعوات الرسمية للعشاء الرسمي للقمة باسم «رئيسة بهارات».
تطابق المادة الأولى من الدستور الهندي، الموضوع أساسا بالإنكليزية، بين اسمين للبلد، فتنص على أن «إينديا التي هي بهارات تنبثق كاتحاد بين ولايات». صيغت هذه المادة في زمن لم يكن فيه القوميون الدينيون في السلطة، بل إن زعيمهم سافاركار كانت توجه له وقتها أصابع الاتهام بالإيعاز لناتهورام غودسه بقتل المهاتما غاندي. طرحت وقتها أيضا أسماء بديلة للدولة الوليدة، منها «الهند» (بما يطابق لفظنا لها بالعربية، وجيش تحرير الهند الذي أنشأه اليابانيون في الحرب العالمية الثانية بقيادة نيتاجي كان اسمه «آزاد فوج هند») و«الهندوستان» لكنها أخرجت من التداول.
استقر الرأي على المطابقة بين «إينديا» الإنكليزية و«بهارات» السنسكريتية. إنما التسمية الأخيرة لا تجد لها صدى حسنا في الجنوب الهندي. يبقى أن إينديا هي أيضا تحوير يجد أصله في السنسكريتية. فنهر السند هو (السند) أو «الإندوس» الذي بات أكثر مجراه في باكستان اليوم، هو الذي صار رسمه أعطى الاسم الفارسي والإغريقي ثم العربي للهند وتنويعاته في اللغات الأوروبية. ولئن كان القوميون الإحيائيون يكثرون من استخدام لفظ «بهارات»، فحزب المؤتمر لم يكن يبخل بذلك قبلا، وإن كان مقصد التسمية عنده الإشارة إلى الجذور الحضارية والميثولوجية، لا إلى مشروع إحياء عصر ذهبي، يراد أن يقال إن كل ما تبعه منذ ألف عام كان انحطاطا مديدا. ثم إن تسمية «بهارات» التي تحيل إلى ملك أسطوري، تفيد في السنسكريتية صيغة مذكرة لاسم الهند، بما يطابق تشديد مطلق الهندوتفا، دامودار سافاركار، على «الوطن الأب» (بيتريبهو) لا «الوطن الأم»، أسوة بتشديده على مقولة «بهارات بهومي» والمقصد فيها أنها وطن غير قابل للتجزئة في حدوده الطبيعية، أي التي تشمل وفقا لمنطوق سافاركار، الأقاليم التي باتت تشكل باكستان.
استحضار اسم بهارات في القمة العشرين أثار جدلا مرشحا لأن يطول في الهند، فهو يندرج داخليا في سياق الاستقطاب الحاد بين الحزب الحاكم وأخصامه الذين تلاقوا في جبهة انتخابية موحدة، اتخذت لنفسها اسم «إينديا» (مختصر الأحرف الأولى للتحالف الوطني التنموي الجامع).
ستخاض الانتخابات إذن بين حزب يقدم اسم بهارات وتحالف «إينديا». والتحالف الأخير، علاوة على حزب المؤتمر والتيارات الأكثر شعبية في البنغال والتاميل والأحزاب الشيوعية، يضم الفصيل اليميني المتطرف المهيمن على مومباي وولاية مهاراشترا، «شيف سينا» أو «جيش شيفاجي»، الأمر الذي يهدف الحزب الحاكم عليه من بوابة الطبيعة الانتهازية الصرف لائتلاف الأخصام ضده. كأنه بهذا يقول؛ إن «إينديا» مهلهلة لا رصيد لها من دون «بهارات» صلبة، أي في استدامة حكمه وعملية تبديله لمعالم البلاد (المفارقة أن التهديف على اسم إينديا يصدر عن جهة متشبثة باسم الهندوس للهندوس والهندي للغة الأولى). يبقى أن إيثار الاسم السنسكريتي للبلاد يفتح الباب لموضوع آخر: الدستور الهندي. فهو مكتوب بالإنكليزية، والاختلاف حول أي عبارة فيه تتطلب العودة إلى نحو الإنكليزية ومعجمها، فهل يمكن ألا تشطح عملية «إعادة سنسكرتة» الهند نحو المطالبة بدستور جديد للبلاد لا يكتب بالإنكليزية؟ هل يمكن أن يعني هذا أقل من مغامرة كيانية محفوفة بمخاطر التفجير؟
(القدس العربي)