قضايا وآراء

عن الحضور التركي والانتصار الأذري الأبعد من ناغورني قره باغ

ماجد عزام
كان لانتصار أذربيجان تداعيات إقليمية ودولية- جيتي
كان لانتصار أذربيجان تداعيات إقليمية ودولية- جيتي
أعلن الرئيس إلهام علييف أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي عن فرض السيادة على إقليم ناغورني قره باغ الأذري الذي تقطنه أكثرية من أصل أرمني، بعد عملية لمكافحة الإرهاب استمرت 24 ساعة وأجبرت الانفصاليين على إلقاء أسلحتهم. مثّل إعلان علييف تعبيراً عن تحقيق الانتصار الكامل، وإغلاق الدائرة الدموية والظالمة التي بدأت في العام 1992 إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، بينما كان الانتصار الفعلي قد تحقق إكلينيكياً بحرب العام 2020 حيث باتت استعادة السيادة الأذرية على الإقليم مسألة وقت فقط.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومع كتائب عسكرية سوفييتية بأكثرية أرمنية وانحياز واضح من موسكو، احتلت أرمينيا إقليم ناغورني قره باغ بعد جرائم وفظائع وتطهير عرقي قتل فيها 30 ألفا على الأقل من المدنيين الأذريين في الإقليم والمناطق المحيطة التي احتلتها أرمينيا، وأُجبر مليون من أهلها على النزوح.

في العام نفسه 1992 شكلت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا "مجموعة مينسك" التي ضمّت فرنسا وروسيا والولايات المتحدة إضافة إلى أذربيجان وأرمينيا، ولكن كان الانحياز واضحاً من قبل الغرب وحتى الشرق (روسيا) للأرمن. وبعد سنين وعقود طويلة وعشرات من الاجتماعات وجولات الحوار وتداول وثائق تؤكد سيادة أذربيجان على الإقليم، التابع لها أصلاً وفق الاتفاقيات والمعاهدات وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة خاصة القرار 822 الصادر في نيسان/ أبريل 1993، إلا أنه لم يكن ثمة جهد فعلي لإحقاق الحق والعدل، أو إجبار أرمينيا على الانسحاب من المناطق المحتلة وإعادتها إلى أصحابها وأهلها.

لم يكن غريباً كذلك أن ينحاز الغرب أيضاً لأسباب مشابهة إلى أرمينيا، بينما لعبت فرنسا دور رأس الحربة للدفاع عن الأرمن ومصالحهم، وإدامة احتلال الإقليم إلى الأبد ضمن دعم ضمني من أوروبا والولايات المتحدة

بدت روسيا طوال سنوات وعقود طويلة أقرب إلى أرمينيا لعوامل عدة تاريخية وسياسية ودينية وثقافية، إضافة إلى توقيع معاهدة معها ضمن منظمة الأمن الجماعي في آسيا الوسطى والقوقاز التي تقودها موسكو.

لم يكن غريباً كذلك أن ينحاز الغرب أيضاً لأسباب مشابهة إلى أرمينيا، بينما لعبت فرنسا دور رأس الحربة للدفاع عن الأرمن ومصالحهم، وإدامة احتلال الإقليم إلى الأبد ضمن دعم ضمني من أوروبا والولايات المتحدة.

هذه العوامل مجتمعة أدت إلى غطرسة الأرمن واسترخائهم مع شعور أن المجتمع الدولي برمته تقريباً معهم، وبالتالي لا داعي لتقديم تنازلات حتى مع الإقرار من قبل موسكو ويريفان نفسها بأن الإقليم كان تاريخياً جزءا من أراضي أذربيجان عند إعلان الاتحاد السوفييتي ثم مع الحدود التي تشكلت بعد تفككه.

من جهتها أذربيجان التي خسرت المعركة في بداية التسعينيات -ربحت الحرب بعد ذلك- رغم أنها أكثر عدداً وأكبر مساحة، وحتى بمكامن القوة للجمهورية الوليدة، إلا أن سيرورة البناء والاستقلال لم تكن قد اكتملت آنذاك، وكانت لا تزال في مرحلة التأسيس، حيث بادرت إلى بناء نفسها كدولة ذات نظام جمهوري علماني منفتح وديمقراطي ولو نسبياً –جرى توريث سياسي في إطار البيئة المحيطة بجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة- مع اقتصاد حر وناهض خاصة مع ثرواتها الطبيعية الهائلة من النفط والغاز.

انفتحت الجمهورية الأذرية ضمن الأمر الواقع تجاه روسيا ونسجت علاقات جيدة وتعاونت معها لاتقاء شرها لكن مع عدم الاعتماد العسكري التام عليها، وهو الخطأ الذي ارتكبته أرمينيا مع الركون لمعاهدة الأمن الجماعي ودفعت ثمنه في المعارك الأخيرة التي حسمت الحرب.

كما حرصت أذربيجان على إقامة علاقات جيدة مع أمريكا والغرب في ظل الحاجة لخبرات شركاتها الكبرى خاصة النفطية مثل البريطانية العملاقة "بي بي"، للاستفادة من الثروات الهائلة بالبلاد.

إلى ذلك أقامت الجمهورية الوليدة علاقات قوية مع إسرائيل التي كانت من أوائل الدول التي اعترفت بها لأسباب عدة؛ منها موازنة النفوذ الأرمني في أمريكا والعالم، كما للحصول على السلاح مع عوائق غربية منعت التسلح طوال عقدين، ومع ذلك لم تفتتح باكو سفارتها الرسمية في تل أبيب إلا منذ شهور قليلة مع ربط ذلك بمكتب تمثيلي لدى السلطة الفلسطينية.

ثمة بعد اقتصادي للعلاقات مع أذربيجان لا يتعلق فقط بتصدير إسرائيل السلاح إليها، ولكن أيضاً باستيراد النفط منها كدولة قريبة نسبياً، حيث تعتمد تل أبيب عليها بشكل أساسي إضافة إلى إقليم شمال العراق لتوفير احتياجاتها النفطية.

حرصت الدولة العبرية على تقوية العلاقة الثنائية والتواجد هناك نظراً لحدود أذربيجان الممتدة مع إيران، ومنع هذه من التوسع وبسط هيمنتها ونفوذها في البلاد المهمة والغنية والمترامية الأطراف؛ ذات القومية واللغة التركيتين والمذهب الشيعي.

رغم ذلك كانت إسرائيل طوال الوقت حذرة جداً تجاه قضية ناغورني قره باغ ونأت بنفسها عنها قدر الإمكان لعلاقتها الجيدة مع أرمينيا كما لعدم الاحتكاك مع روسيا والغرب، والأهم عدم إسقاط الانفصال وإعلان الجمهورية من جانب واحد على القضية الفلسطينية حتى مع التناقضات الجوهرية بين الحالتين.

تغيرت وتبدلت الموازين جذرياً في السنوات الماضية، وتحديداً في العقد الأخير مع دخول تركيا الجدي والمؤثر على الخط كتعبير طبيعي عن قوتها ونهضتها في الداخل، وحضورها ونفوذها الإقليمي خاصة في آسيا الوسطى والقوقاز، حيث العلاقات التاريخية مع الجمهوريات الإسلامية التي ينحدر معظم مواطنيها من أصول تركية. وقد تبدّى هذا بمعاهدات تعاون استراتيجي كما تأسيس منظمة الدول الناطقة بالتركية.

تغيرت وتبدلت الموازين جذرياً في السنوات الماضية، وتحديداً في العقد الأخير مع دخول تركيا الجدي والمؤثر على الخط كتعبير طبيعي عن قوتها ونهضتها في الداخل، وحضورها ونفوذها الإقليمي خاصة في آسيا الوسطى والقوقاز، حيث العلاقات التاريخية مع الجمهوريات الإسلامية التي ينحدر معظم مواطنيها من أصول تركية. وقد تبدّى هذا بمعاهدات تعاون استراتيجي كما تأسيس منظمة الدول الناطقة بالتركية

في السياق نفسه كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بأذربيجان عند استقلالها، وأول زعيم زارها كان الرئيس تورغوت أوزال الذي وضع أساس أو اللبنة الأولى لتركيا الجديدة وبمساعدة من نجم الدين أربكان الذي وضع اللبنة الثانية، قبل أن يتولى الرئيس رجب طيب أردوغان إقامة البنيان المكتمل (كما نراه الآن)، الجمهوري الديمقراطي العلماني المنفتح على تاريخ وثقافة وتراث البلاد ومحيطها العربي الإسلامي دون القطع مع الغرب وروسيا والعالم.

جرى توقيع اتفاقيات سياسية واقتصادية مع تأسيس مجلس استراتيجي للعلاقات يقوده الرئيسان أردوغان وعلييف، ثم كان التعاون العسكري ودعم بأسلحة تركية نوعية خاصة المسيّرات الفتاكة والحاسمة، إضافة إلى المناورات المشتركة كما تزويد باكو بالخبرات القتالية اللازمة.

 تبدّى الطابع الاستراتيجي للعلاقات كذلك عبر خطي الغاز والنفط، وهما من أطول خطوط الطاقة العابرة للقارات عبر أذربيجان وجورجيا وتركيا إلى أوروبا.

إلى ذلك دعت تركيا دائماً إلى إحقاق الحق في قضية ناغورني قره باع، وتطبيق مجموعة مينسك لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة -كما إعلان آلماتي (1991)- التي تعترف كلها بتبعية الإقليم لأذربيجان، لكن لم يلتفت إليها أحد، ومع تنامي قوة هذه الأخيرة السياسية والاقتصادية والعسكرية والبشرية بادرت بدعم راسخ من تركيا للحسم العسكري في العام 2020 باعتباره آخر العلاج واستمرارا للسياسة لكن بوسائل أخرى، حسب المقولة الشهيرة والصحيحة لكارل فون كلاوزفيتز.

كان موقف روسيا مساعدا وواقعيا في السنوات الأخيرة كونها تعترف أصلا بأذرية الإقليم، كما تقديراً لعلاقاتها ومصالحها المتنامية مع تركيا، ولذلك تبنت موقفاً متوازناً نسبياً مع مبادرة باكو إلى انتزاع حقوقها بنفسها مقابل دعم غربي وفرنسي تحديداً ليريفان، لكن لم تكن ثمة فرصة لدعم عسكري مع اعتماد الجيش الأرمني بالكامل على روسيا وأسلحتها ومعداتها التي لم تصمد كالعادة أمام التكنولوجيا التركية والغربية المتقدمة.

مع ضعف أرمينيا وعجزها عن الصمود لفارق موازين القوى، وعجز الغرب عن نجدتها، والموقف المتوازن الحيادي لروسيا، وكما قالت صحيفة فزغلياد الروسية في21 أيلول/ سبتمبر عن حق أنهم -أي الأرمن- لم يتعودوا تاريخياً على القتال وحدهم بل اعتمدوا تقليدياً على الدعم الخارجي سواء من روسيا أو الغرب.. أدت هذه المعطيات مجتمعة إلى هزيمة أرمينيا في العام 2020 وتحرير أذربيجان معظم أراضيها المحتلة ووصولها إلى تخوم ناغورني قره باغ، ما دفع يريفان إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار الذي سعت موسكو عبره إلى حفظ ماء وجه الأرمن كما الحفاظ على نفوذها هي نفسها في المنطقة.

تضمن الاتفاق نشر قوات حفظ سلام روسية في الإقليم مع مراقبة تركيا روسية مشتركة لوقف إطلاق النار، وترتيبات لاستعادة باكو سيادتها على الإقليم وفتح ممر زنغزور عبر ناخيتشيفان (الأذرية) التي تتمتع بالحكم الذاتي، ويمكن من خلاله خلق تواصل جغرافي بين باكو وأنقرة.

إثر ذلك ومع بنود اتفاق وقف النار أضحى تحرير ناغورني قره باغ واستعادة السيطرة عليه مسألة وقت فقط، سواء أكان ذلك سلماً أو حرباً.

في تلك الفترة شهدنا موقفاً فرنسياً منفصماً ومتغطرساً وعداء مهووسا لتركيا ومحاولة يائسة للحفاظ على النفوذ أو الشعور بأنها لا تزال قوة عظمى عالمية، حيث وصل الأمر إلى حد تمرير مجلس الشيوخ الفرنسي مشروع الاعتراف بإقليم قره باغ الانفصالي كجمهورية مستقلة.

في السنة الأخيرة وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا دخلت أمريكا على الخط وسعت للتقرب أكثر من أرمينيا -تم التخطيط لمناورة عسكرية مشتركة بينهما آخر أيلول/ سبتمبر الماضي- في محاولة لإبعادها عن روسيا التي تنحت جانباً في المعركة الأخيرة حتى تمكنت باكو من تحقيق الانتصار النهائي والحاسم، بعدما رأت الوقت مناسبا لعملية خاطفة استمرت 24 ساعة فقط وأجبرت الانفصاليين على إلقاء السلاح، مع قبول العفو عنهم والتفاوض على حقوقهم الكاملة ودمجهم كمواطنين في أذربيجان، والتعاطي بالذهنية المنفتحة نفسها تجاه أرمينيا، والاستعداد لأفضل علاقات التعاون والتنمية معها خاصة بعدما رفضت التدخل أو توريط نفسها في المعركة الأخيرة.

ستكون لهذا الانتصار الأذري بالتأكيد تداعيات على المنطقة كلها (آسيا الوسطى والقوقاز) لجهة تكريس التراجع الروسي، والصعود التركي مع سعي غربي غير ناضج أو واقعي لملء الفراغ الروسي. كما ستستمر المساعي لفتح ممر زنغزور (ناخيتشيفان) الذي يربط أذربيجان بتركيا باعتباره أحد بنود اتفاق وقف إطلاق النار في العام 2020، مع إصرار على فعل ذلك بالقوة أيضاً إذا لزم الأمر كما قال الرئيس علييف، علماً أن الأمر كفيل بتغيير وجه المنطقة كتعبير منطقي عن توازنات القوى الجديدة فيها.

يمثل الانتصار الأذري- التركي هزيمة لإيران أيضاً التي دخلت على الخط بشكل مفاجئ لدعم أرمينيا، حيث اتصل رئيس أركانها الجنرال محمد باقري أثناء العملية الأخيرة لعرض خدماته على الجيش الأرمني الذي قرر عدم التدخل لتلافي تلقي ضربة قاصمة

من هذه الزاوية تحديداً يمثل الانتصار الأذري- التركي هزيمة لإيران أيضاً التي دخلت على الخط بشكل مفاجئ لدعم أرمينيا، حيث اتصل رئيس أركانها الجنرال محمد باقري أثناء العملية الأخيرة لعرض خدماته على الجيش الأرمني الذي قرر عدم التدخل لتلافي تلقي ضربة قاصمة، علماً أن طهران هددت بالتدخل لمنع فتح ممر زنغزور وتحريض يريفان للتشدد والتطرف أكثر في موقفها؛ الذي لم يعد مطروحاً بعدما باتت عاجزة عن المضي قدماً به خشية تعرضها لهزيمة ساحقة أخرى.

بالعموم، لم يكن الانتصار الأخير أذرياً فقط وإنما مع تداعيات إقليمية وحتى دولية واضحة، لجهة تكريس قوة أذربيجان ومركزية دورها في المنطقة وتأكيد مكانة تركيا كقوة إقليمية كبرى لا يمكن تجاوزها -كان المرحوم أوزال أول المهنئين بالاستقلال والرئيس أردوغان أولهم بالانتصار الحاسم والتاريخي- وتراجع حضور روسيا بعد غزو أوكرانيا، وعجز الغرب عن فرض نفوذه في المنطقة، حيث يبدو الاعتماد على أذربيجان مجديا أكثر من أرمينيا على كل الصعد، لكن مع ضرورة تغيير العقلية الغربية وعدم السعي لاستخدامها كمخلب قط أو لعداء لروسيا وابتزازها، وإنما وفق المصالح المشتركة الاقتصادية مع امتلاك باكو ثروات واحتياطات هائلة من النفط والغاز وسوق واسعة أيضاً، وانفتاح على التطوير والبناء والنهضة، والقدرة على المساهمة في تعويض أوروبا عن الغاز الروسي، لكن هذا يمر حصراً عبر تركيا وهو ما لا تحبذه واشنطن الباحثة عن ممرات وطرق أخرى، لكنها ستضطر كعادتها كما خط "إيست ميد" للتعاطي مع الأمر الواقع عاجلاً أو آجلاً.
التعليقات (0)