(الكتابة والصيام)
لا أعرف إن كنت أنا الذي يخاصم الكلام، أم أن الكلام
يتهرب مني!..
قالت هبة: الكتابة كالصيام..
لم أفهم، هل يعني هذا أن أتعبد بالصمت، أم أعقد النية على
الكتابة وأحافظ عليها كما يحافظ المؤمن على صومه؟
قالت هبة: اكتب أو لا تكتب، المهم
ألا تكتب بغير نية.
قلت: حتى لو لم يكن للكلام
جدوى في أسواق الصخب؟!
قالت: اكتب "حَتَّى
يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"..
ذات نهار من نهارات الانتظار
الطويل ارتاحت هبة من الأسئلة ومن التعب ومن الانتظار.. ارتاحت للأبد..
هل الموت راحة؟
كان لهبة صديقة اسمها مريم، كانت
شريكتها في جدال مشتعل دوما، وفي الأيام الأولى للقصف كتبت مريم: "ماني مصدقة
إني عايشة للحين، وما بعرف إذا بعد ساعة راح أضل عايشة؟!.. تعبت وأنا بشرد من مكان
لمكان، من مستشفى لشارع لبيت.. والقصف فوقنا"..
ذلك الإحساس بالخذلان يخلق إنسانا صديقا للموت، برغم إصراره على الحياة (حتى تنقضي قسرا).. يخلق إنسانا لا ينشغل بالصغائر والمشاعر الدونية ولا ينتظر كرما من الأنذال (فطعن الخناجر أطيب من استجداء خسيس).. يخلق إنسانا غير أولئك الذين نراهم على الشاشات يناضلون من أجل استمرار مواسم الترفيه (حتى لا تحزن الأمة)، وينفقون بكرم بالغ على غلمانهم
وارتقت مريم فشاركت هبة
عبارتها وقدمتها بتعبير "ارتاحت مريم"..
ارتاحت مريم، وارتاحت ساجدة،
وارتاح آلاف الشهداء، وارتاحت معهم "هبة أبو ندى" تاركة أسئلتها وأحلامها
أمانة للمشردين على أرصفة الانتظار..
"نحنُ في
غزة عند الله
بين شهيد وشاهد على التحرير.. كلنا ننتظر أين سنكون؟ كلنا ننتظر.. اللهم وعدك الحق".
كتبت هبة آخر كلماتها
كرسالة.. كوصية.. كوثيقة إيمان بانتظار الوعد الحق، والأمل العزيز الذي بعثته
المقاومة من رقاد طويل، ثم دخلت في صوم طويل عن الكلام وعن الكتابة.. بدأت صيامها
الأبدي وتركتنا نشرد في الطرقات كمريم، ونحلم بنتائج الانتظار.. "حَتَّى
يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".
(أسماء في النعش)
مخيف قول هبة أن
الفلسطينيين يحفظون
عن غيب أسماء الذين خذلوهم، وأسماء الذين نصروهم، ربما لم يحفظوها بالذاكرة، بل
بالأبدية.. "سنحملهم في نعوشنا"..
كانت هبة غاضبة في صمت يكوي
من المتخاذلين العرب، كانت تلومهم في نفسها أكثر مما تلوم الأعداء والعالم الظالم
الذي لم يأسف يوما لموت "مريم"، إنه عالم لعين بعينٍ واحدة، وفكرة قهرية
واحدة يحارب لكي يفرضها على الجميع: حق إسرائيل في قتل الجميع دون تعقيب أو مساءلة..!
ذلك الإحساس بالخذلان يخلق
إنسانا صديقا للموت، برغم إصراره على الحياة (حتى تنقضي قسرا).. يخلق إنسانا لا
ينشغل بالصغائر والمشاعر الدونية ولا ينتظر كرما من الأنذال (فطعن الخناجر أطيب من
استجداء خسيس).. يخلق إنسانا غير أولئك الذين نراهم على الشاشات يناضلون من أجل
استمرار مواسم الترفيه (حتى لا تحزن الأمة)، وينفقون بكرم بالغ على غلمانهم (لأن
نتنياهو لا يعترض على تمويل مسرح مصر وبطولات آل الشيخ).
لكن هل يخاف الحمقى والجهلاء
والعملاء من "دفتر الأسماء الفلسطيني"؟
هل يهتم أولئك العابرون (باعة
الأوطان) بكلمة مؤجلة يدونها التاريخ؟
فكرة حفظ الأسماء مخيفة لمن
ينتمي على سياق، ويؤمن بثواب وعقاب، أما الكافرون بالمعاني، فلا يعنيهم ذلك
التوثيق، لذلك لا بد من طريقة أخرى لتصحيح الاعوجاج..
وأظنني عثرت على خيط للطريقة
التي شغلت بالك يا هبة في النظر لقضية تصحيح الاعوجاج، وأسميها "سلوك
المقاومة" حتى لا يساء فهم التعبير، ولعلك تذكرين تعبيرك الثاقب عن غزة والذي
كتبت فيه: "كلَّما اعوجَّ خطُّ على خريطة فلسطين بين المدن، صححه الرصاص.. الممحاة
للصغار، لكن المدن تصحح الأخطاء بالرصاص (غزة مثالا)..".
ما ينطبق على الحجر لا ينطبق
على البشر، لكنني أعتقد يا هبة أن المدن ليست من حجر، المدن ناس قبل كل شيء، لذلك
فإن مثال غزة يصلح كطريقة لتعميم أخلاق وسلوك المقاومة في كل حياتنا، من الحماقة أن
نأكل ونشرب ونلبس ونلعب ونتسلى بمعرفة الأعداء وحسب كتالوجهم، ثم ننتظر منهم أن
يكونوا لطفاء معنا إذا اختلفنا معهم.. لا بد أن نتعلم طريقة أخرى للحياة تحررنا من
بضاعتهم ومن "باعتهم السريحة" حتى لا نظل "زبائن سذجا" في أسواق
الاستعباد.
بمقاطعة الأعداء والتحرر من
نموذجهم في الحياة وأحكامهم واتباعهم فريضة تذكرنا بها غزة كلما وقفت في المواجهة،
لا بد أن نؤمن بأننا قادرون على تغيير المصائر، وهذا الإيمان في رأيي يصلح كهدف
مرموق يمكننا أن ننتظر من أجله، وبدونه لن يكون لانتظارنا معنى. هكذا أفهم الفرق
بين "انتظار المقاوم" و"انتظار المتخاذل"، والفرق شاسع.
بمقاطعة الأعداء والتحرر من نموذجهم في الحياة وأحكامهم واتباعهم فريضة تذكرنا بها غزة كلما وقفت في المواجهة، لا بد أن نؤمن بأننا قادرون على تغيير المصائر، وهذا الإيمان في رأيي يصلح كهدف مرموق يمكننا أن ننتظر من أجله، وبدونه لن يكون لانتظارنا معنى. هكذا أفهم الفرق بين "انتظار المقاوم" و"انتظار المتخاذل"
(تعالي نتحدث أكثر عن الموت)
يقرأ المذيع المتأنق في نشرة
الأخبار: مقتل عشرات الفلسطينيين جراء قصف إسرائيلي لأحياء سكنية في قطاع غزة..
عشرات، أو مئات، أو أي رقم..
كلها تعبيرات احتيالية معتمة تحجب عنا حياة الناس، وتقدمهم لنا كأسعار الوجبات في
"منيو المطاعم"، قفز على الحياة والمشاعر والمصائب، حيلة للحفاظ الاحترافي
على حالة التلقي البارد للمجازر والجرائم وسرقة حياة الإنسان، ونظل في تلك المنطقة
الرمادية الباهتة حتى نصطدم بسخونة الحقائق.. أم تبحث عن طفلها بأمنية مستحيلة أن
يكون حيا برغم القصف: "اسمه يوسف.. شعره كيرلي.. أبيضاني وحلو"، طفلة
تنهار على مقعد انتظار في مشفى بعد التعرف على جثمان أمها: "هذي أمي.. بعرفها
من شعرها"، صبي يحمل جثمان شقيقه الطفل في انتظار اللا شيء، "والله ما
هي عيشة ولا حياة".. يقول الطفل محتجا دون أن ينكسر، شباب يتسامرون فيسألون
بعضهم: مين مستعد وجاهز يقابل الله.. مستعد يا محمد؟.. وأنت يا.. ولما يجيبون بأنهم مستعدون ينظر للسماء ساخرا من الصواريخ: صاروخ هنا.. احنا جاهزين.
هذه التفاصيل تكشف خديعة
نشرات الأخبار وتصريحات الحكام والمسؤولين ومناشدات المنظمات الحقوقية المحكومة
بنظام دولي محتال، كما تكشف إكليشيهات القفز على الحقائق التي تتحدث عن صمود
المقاومة وبطولة غزة وعظمة الشعب الفلسطيني، وكأنها معطيات بديهية مجانية بلا ثمن!
الحقيقة أن المقاومة تعب
وتضحيات مؤلمة، والصمود معاناة وقلق وبحث دائم عن الأمان المفقود (بشرد من مكان
لمكان ومن مستشفى لشارع)، والبطولة هي محاولة أن تظل حيا بينما الموت يلاحقك، وأنت
تفر منه بقدر استطاعتك من دون أن تنهزم وتستسلم، تلك هي المعاناة التي تتجاهلها
الإكليشيهات وتبخس ثمنها..
التفاصيل تعطينا فكرة أصدق عن
تضحيات شعب يطارده القتلة، فيبذل كل جهده ليبقى حيا.. يغادر بيته مؤقتا إلى مستشفى
أو حقل أو كرمة نائية أو مكان احتمالية قصفه أقل من البيوت والمدن، وقد لمست هذه
المعاناة الأوديسية في أحد حقول "بيت جرجا" (شمال شرقي غزة)، حيث كانت
هبة تفتش مع أهل القرية عن مكان للحياة، لكنها لم تجد، فكتبت تقول: "الأمر
كالتالي: كلنا في حقل مفتوح، سنابل منهكة من الحصار، الموت يحمل منجلا ضخما ويلوح
به علينا يمينا ويسارا، كلنا نموت، والحقل يفرغ منا، والسنابل تتطاير!".
الحكمة هنا أن القصة ليست كما
تقول الأخبار: شعب نائم في الفراش غير عابئ، وفجأة يختفي تحت القصف دون معاناة،
القصة أن هناك تعذيبا وتشريدا ومطاردة بين الموت والحياة، أناس يجاهدون لكي يظلوا أحياء،
يشردون من مكان لمكان كما قالت مريم، أو يشعرون بأنهم "بالكاد أحياء"
كما قالت هبة، عقولهم مشتعلة بأسئلة عن خريطة الخذلان والدعم، وذاكرتهم تنشط لتسجل
المواقف وتحفظ الأسماء: "والله ما راح ننسى.. لقد صارت أجسادنا من هواء
وذاكرتنا من حديد"..
قالت هبة عبارتها الكاشفة عن
المعاناة والصراع الداخلي، ثم لخصت الملحمة في عبارات لا يقدر أن يكتبها بهذا
الوضوح والصدق إلا من صهرته نيران الملحمة، لذلك أستعيرها شاعرا بالحزن وبالفخر،
مسكونا بالقهر وبالأمل، صارخا من جحيم المرحلة الكئيبة ومؤمنا بفريضة انتظار
الفردوس..
(غزة.. الممكن المستحيل)
غزَّة فعلت أقصى ما يمكنها فعله في مواجهة هذا الظلم، تجاوزت الخيالات وارتفعت عن سقف الممكن والمستحيل، حطَّمت كل التماثيل واللاءات، واخترعت صمودا سيظل يدرَّس في التاريخ ويُنسب إلى غزة، وعندما تنسلخ الأكاذيب ويتساقط السياسيون المنافقون وتنهار الإنسانية الزجاجية على نفسها
غزَّة فعلت أقصى ما يمكنها
فعله في مواجهة هذا الظلم، تجاوزت الخيالات وارتفعت عن سقف الممكن والمستحيل،
حطَّمت كل التماثيل واللاءات، واخترعت صمودا سيظل يدرَّس في التاريخ ويُنسب إلى
غزة، وعندما تنسلخ الأكاذيب ويتساقط السياسيون المنافقون وتنهار الإنسانية
الزجاجية على نفسها، ستبقى غزة رمزا أسطوريا غيرَ مفهوم وغير ممكن، رقما قياسيا لا
يمكن للمدن والحضارات والجيوش تحقيقه إلا بزمان الأنبياء والمعجزات.
لقد فعلنا ما يجب علينا فعله
لنسترد حقوقنا.. لنقاتل ونصمد بالنيابة عن الأمة والمظلومين في العالم، لا شيءَ
لنندم عليه ولا لنحزن عليه، أمام الله وأمام أنفسنا نحنُ أصحاب حق، وجزؤنا من
العهد كان أن نصمد ونحاول، وما بعدَ ذلك هو أمرُ الله آمنا به وعليه توكلنا.
إن قضينا فتلك شهادة شرف، وإن
بقينا سنروي الحكاية ونضع قصتنا في عيون العالم أجمع، وما بين هذا وذاك لنا طقوسنا
في البكاء والصبر والحزن والتذكر والأمل واليأس.
إن متنا قولوا بالنيابة عنا:
كان هنا أناس يحلمون بالسفر والحب والحياة وأشياء أخرى.. نحنُ تحتَ الطائرات والله
أعلى منها ومنهم..
نعم يا هبة.. الله أعلى من
الطائرات ومن الأعداء..
وفي المقال المقبل نكمل
الحديث عن غزة بالأسماء المدونة في العقول وفي النعوش.
[email protected]