تردّدتُ كثيراً، قبل أن أُقرّر كتابة هذا المقال. لستُ أعرف إذا ما كانت الكتابة تتعلّق بالعادة، أم أنّها الحاجة.
في كلّ الحالات لم يعد ثمة أيّ متعة في أن تكتب وأنت مكبّل بقيودٍ كثيرة، تضطرّ معها، لأن تعصر دماغك، علّك تستطيع الوصول إلى الحقيقة أو بعضها تفادياً لثمنٍ تنتظره من جهات كثيرة.
بات معروفاً المصير الذي يواجهه كلّ مَنْ يجرؤ على البَوْح بكلّ الحقيقة في بلاد فقدت الحقّ في الكلام فكيف حين يتحوّل الكلام إلى فعل.
ثمة ضرورة للكتابة فذلك أضعفُ الإيمان في أوضاع طافحة بالتضحيات، وشعب لا يملّ من تقديم المزيد منها ثمناً لحرّية ينكرها عليه القريب والبعيد.
ها هو موعد جديد آخر ينقضي دون أن يفتح طاقة أمل ولو كانت صغيرة، أمام أطفال لم يفتحوا بعد عيونهم على الحياة.
الحادي عشر من هذا الشهر، حيث كانت ستنعقد قمّتان عربية وإسلامية، كان على ما يبدو، أنّه الحدّ الأخير من الوقت سمح به
العرب والمسلمون بطلبٍ من أميركا لكي تتوقّف الحرب، أو لكي يدلّ المنتظرين على "خارطة طريق" تضع حدّاً لحربٍ لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، سوى ما فعله المستوطنون البيض في الهنود الحمر أصحاب الأرض في الدولة التي أصبحت إمبراطورية الشرّ.
كنت قد كتبت أنّ موعد القمّة الطارئة، قد خضع لقرار أميركي، حدّد موعدها بعد أكثر من خمسة عشر يوماً من اليوم الذي دعا فيه الرئيس محمود عباس لانعقادها.
يعتريني شكّ عميق، بأنّ دمج القمّتين في قمّة واحدة عربية وإسلامية، إنّما يستهدف توزيع الدمّ
الفلسطيني على أوسع مساحةٍ ممكنة، لكي تضيع المسؤولية بين القبائل التي تشكّل أقلّ قليلاً من ثلث الجمعية العامة للأمم المتحدة.
معلوم أنّه كلما تعدّدت واتّسعت دائرة الحوار، أصبح من الصعوبة التوصّل إلى اتفاق من دون مراعاة كلّ وجهات النظر.
لم تتح لنا الفرصة للاطلاع على كلّ ما ورد في البيان الختامي للقمّة، ولكن المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الخارجية السعودي، وأمين عام الجامعة العربية ركّز على قرارين:
الأوّل، إنّ القمّة قررت كسر الحصار المفروض على قطاع غزّة، وإدخال المواد الإغاثية والوقود فوراً، والثاني، المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار.
حين تتضمّن الصياغة كلمة كسر وفوراً، يتبادر للذهن أنّ خلف هذا القرار إرادة حاسمة، لفرض تنفيذ القرار، حتى لو رفضت إسرائيل ذلك. والسؤال: هل سينفّذ العرب والمسلمون هذا القرار، أم أنّهم ينتظرون صفقة تبادل للأسرى يُجرى طبخها على نارٍ حامية، وسيكون أحد شروطها إدخال المواد الإغاثية والوقود؟
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإنّ لا فضل للقمّة في تحقيق ذلك، فالفضل للمقاومة التي ستفرض شروطها في هذه المساومة.
وإذا كان الأمر كذلك، أيضاً، فإنّ عملية الاستغفال لن تمرّ لا على الشعوب ولا على من ينتظرون المساعدة.
وقالت القمّة العرمرمية، إنّه يجب وقف إطلاق النار فوراً، ولكن في غياب إرادة فرض هذا القرار، يصبح الأمر بيد الولايات المتحدة التي سيمارس عليها أهل القمّة شيئاً من الضغط الذي قد لا يُجدي نفعاً.
لم يُحدّد المجتمعون آليات تنفيذ هذه القرارات، ولا إطارها الزمني، ويترك تنفيذها لإرادة الولايات المتحدة وإسرائيل، ما ينسف بقوّة كلمة فوراً.
قال المجتمعون إنّ القضية الفلسطينية هي قضيتهم المركزية الأولى التي باتت تتصدّر الأجندات الوطنية والقومية، وأعادوا التأكيد على "حل الدولتين"، ومرّة أخرى يعود الفضل للشعب الفلسطيني الذي فرض بنضاله وتضحياته على العالم كلّه، هذه الحقيقة.
يتألّم المرء من الأعماق، حين يشاهد التغيّرات العميقة في الرأي العام "الغربي"، الذي يخرج إلى شوارع عواصم الدول التي اصطفّت خلف دولة الاحتلال، بينما يصمت الرأي العام العربي والإسلامي، وتصمت معه الأنظمة، التي لم يعد لها سوى جميل الكلام فقط.
بُحّت حناجر المستغيثين، من تحت الأنقاض، يستصرخون المعتصم بالله، ولم يتوقّف الناطق باسم وزارة الصحة الدكتور أشرف القدرة، وإدارة مستشفى الشفاء، عن مطالبة القمّة بتقديم العون السريع، وتوفير الاحتياجات الضرورية ولكن كلّ ذلك ذهب أدراج الرياح.
ذهبت المطالبات، ونداءات الاستغاثة، أدراج الرياح المسمومة المحمّلة، بالغاز الأبيض، الذي تلقيه آلة الحرب الإسرائيلية على البشر والحجر والهواء، واختلطت الأجواء المسمومة بالكلام الكثير الذي تطاير من القمّة العتيدة.
وفي الوقت الذي كان الملوك والزعماء يُلقون كلماتهم، التي في معظمها، تجنّبت الإشارة بصراحة إلى مسؤولية الإدارة الأميركية، في هذا الوقت كان حسن نصر الله أمين عام "حزب الله" يلقي خطاباً لمناسبة "يوم الشهداء".
وهناك، أيضاً، علّق الفلسطينيون آمالاً عريضة على "محور المقاومة" لكن طال الانتظار ولم يحصلوا سوى على انخراط جزئي، فجاء الخطاب تبريريّاً.
نفهم أنّ الولايات المتحدة الأميركية تحرّكت منذ اللحظة الأولى للحرب، ووظّفت كلّ إمكانياتها، ونقلت بوارجها الحربية، وأطلقت التهديدات لمن يحاول الاقتراب من ميدان المعركة، ولكن بصرف النظر عن وجاهة التبريرات فإنّ الواقع يقول، إنّ الفلسطينيين تُرِكُوا وحدهم.
ربّما كان الفلسطينيون عاطفيّين، وواهمين كثيراً، بأنّ انتسابهم للأمّتين العربية والإسلامية، يجعل لهم ظهيراً قويّاً، سيكون حاضراً فورَ أن يقوم الفلسطينيون بدورهم كطليعةٍ للأمّتين.
مراجعة تاريخ الصراع منذ بداياته، تشير إلى أنّ الفلسطينيين كانوا وحدهم وأنّ أدوار العرب، لم تتجاوز أدوار دول أخرى بعيدة عن ميدان الصراع، وهي ليست عربية أو إسلامية.
هل نتذكّر الخديعة الكبرى التي تعرّض لها الشريف حسين زعيم "الثورة العربية الكبرى" خلال الحرب العالمية الأولى؟
هل نتذكّر دور الجيوش العربية السبعة التي دخلت الحرب العام 1948، وفشلت في مواجهة العصابات الصهيونية؟
هل نتذكّر الاجتياح الصهيوني للبنان العام 1982، وكيف ترك العرب والمسلمون قوات الثورة، والجماهير الفلسطينية واللبنانية الوطنية تواجه مصيرها؟
لقد وصلت قوّات أريئيل شارون بيروت واحتلتها، وما كان لتلك القوّات الغازية، أن تخرج إلّا تحت ضربات المقاومة اللبنانية؟
ماذا كان دور العرب والمسلمين في الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان العام 2006، أمّ أنّهم كانوا ينتظرون القضاء على المقاومة اللبنانية، وإعادة لبنان إلى زمن سيطرة الطائفية، والتسوّل؟
ما هو الدور الحقيقي الذي لعبته الأمّتان العربية والإسلامية في دعم الشعب الفلسطيني خلال حروبٍ كثيرة على غزّة، واجتياحات المستوطنين للمسجد الأقصى، أم أنّ ذلك حفّز بعضهم لتوقيع "اتفاقيات سلام" مع دولة الاحتلال.
في الكثير من المنعطفات التاريخية، تفرّق العرب، وانحاز بعضهم إلى جانب المعتدي الظالم إن كان أميركياً أو إسرائيلياً أو من جنسيّات أخرى طامعة في ثروات العرب.
هل نتذكّر أدوار بعض العرب خلال ما يسمى "الربيع العربي"، وكيف موّلوا الجماعات الإرهابية، والدول الاستعمارية في سورية وليبيا؟
بصراحة من المخجل أن تتّجه الأنظار إلى الرأي العام الأوروبي والأميركي، الذي جعل إيمانويل ماكرون يُغيّر موقفه، وجعل عديد الحكومات تتّخذ مواقف وإجراءات فعّالة لصالح الشعب الفلسطيني.
لكنّه شعب الجبّارين الذي يشهد له العدوّ قبل الصديق ويخشاه العدوّ والصديق، فلقد أكّد أنّه قادر على حمل المسؤولية طال الزمان أم قصر.
(الأيام الفلسطينية)