أعلن الاحتلال
الإسرائيلي ومنذ الأيام الأولى للعدوان، نيّته
تهجير سكان قطاع
غزة إلى
مصر، لحماية أمن الكيان المحتل من المقاومة والشعب
الفلسطيني الذي وصفه وزير حرب
الاحتلال يؤاف غالانت بالحيوانات البشرية، واتهمه رئيس الكيان هيرتسوغ بأنه شعب غير بريء، لعدم وقوفه
ضد حركة حماس وكتائب القسام التي أطاحت بفرقة غزة في أقل من خمس ساعات في معركة
طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
حاول الاحتلال الإسرائيلي مبكرا، فتح مسارات لتنفيذ هذا الهدف بالتعاون مع
القاهرة التي زارها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولكن
القاهرة وعلى لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي، أعلنت رفضها القاطع لفكرة التهجير، بقوله
إن "ما يحدث في غزة ليس عملا ضد حماس، وإنما محاولة لدفع المدنيين إلى اللجوء
والهجرة إلى مصر"، معتبرا ذلك تصفية للقضية الفلسطينية وتهديدا لأمن مصر
القومي.
وفي ذات السياق، أعلن الأردن رفضه القاطع لهذه الفكرة، التي ستشكل تصفية
للقضية الفلسطينية ومقدّمة لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن.
تراجُع الحديث عن التهجير إعلاميا على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، لا يعني
بالضرورة موتا للفكرة في رؤوسهم، وإنما قد يكون تغييرا في التكتيكات الخطابية بعد
أن استفزّت تلك التصريحات العديد من الدول العربية والغربية، لأنها فكرة لا يمكن
الترويج لها أو مباركتها في العلن.
تراجُع الحديث عن التهجير إعلاميا على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، لا يعني بالضرورة موتا للفكرة في رؤوسهم، وإنما قد يكون تغييرا في التكتيكات الخطابية بعد أن استفزّت تلك التصريحات العديد من الدول العربية والغربية، لأنها فكرة لا يمكن الترويج لها أو مباركتها في العلن
وبمتابعة إجراءات الاحتلال وسلوكيات عدوانه على غزة في الجولة الأولى أو
الثانية بعد الهدنة، نرى أنها كانت ولا تزال حاضرة في العقل الإسرائيلي من خلال:
أولا: استمرار الحصار المطبق على قطاع غزة، بمنع دخول كافة احتياجات
الإنسان الأساسية من أغذية ومياه وأدوية ووقود، مع تدمير جيش الاحتلال لنحو 60 في
المئة من الوحدات السكنية في قطاع غزة، وتدمير معظم البنى التحتية، ولا سيّما في
مدينة غزة وشمالها، وفي مقدمتها القطاع الطبي حيث خرج نحو 25 مشفى من أصل 35 عن
الخدمة، وما دخول بعض المساعدات قبل الهدنة المؤقتة وأثناءها، إلا قطرة في بحر
احتياجات المواطنين، وحتى لو استمر دخول تلك المساعدات، وهو أمر مشكوك فيه، فلن يشكّل
الحد الأدنى لاستمرار الحياة البشرية.
ثانيا: استطاع جيش الاحتلال وبقوة التدمير المباشر للأحياء السكنية في
مدينة غزة وشمال القطاع، إجبار نحو 700 ألف مدني للنزوح إلى وسط وجنوب القطاع، ما
يشير إلى أن معظم السكان أصبحوا يتمركزون في وسط وجنوب قطاع غزة بواقع 1.7 مليون
تقريبا من أصل 2.25 مليون، مع الإشارة إلى أن نحو 1.8 مليون من السكان أصبحوا في
عداد النازحين عند الأقارب وفي مراكز الإيواء التي لا يتوفّر فيها أدنى مقوّمات
الحياة.
ثالثا: بعد أن انتهت الهدنة الإنسانية المؤقتة، واستأنف الاحتلال عدوانه
على قطاع غزة في الأول من الشهر الجاري، يُلاحظ أن الاحتلال بدأ يركّز قصفه
بالطائرات على ما تبقى من مدينة غزة وشمالها بالإضافة إلى جنوب قطاع غزة وخاصة
مدينة خان يونس، التي تعد المدينة الثانية بعد مدينة غزة، وهي الوحيدة التي بقي
فيها قطاع طبي نشط كمجمع ناصر الطبي. واللافت هنا أن هذه المدينة تشهد كثافة نارية
كبيرة، مع دعوة الاحتلال لسكان المناطق الشرقية منها، وهي مناطق مكتظة بالسكان،
إلى النزوح إلى مدينة رفح الواقعة على الحدود مع مصر، وليس النزوح إلى وسط مدينة
خان يونس أو المحافظات الوسطى للقطاع، في إشارة واضحة إلى محاولته تركيز أكبر عدد
ممكن من السكان على الحدود المصرية.
تلك المعطيات تشير إلى أن الاحتلال يصنع وقعا معقّدا، في محاولة منه، لدفع
السكان إلى اللجوء إلى مصر عبر الحدود بقوة القصف والنيران التي لا زالت تحصد
أرواح المئات يوميا، وتدمّر الوحدات السكنية والبنى التحتية بشكل كبير، وتحرمهم من
لوازم الحياة الإنسانية كالغذاء والماء والوقود، بهدف تفريغ قطاع غزة من السكان،
وتحويله إلى أرض محروقة، بعد أن فشل جيشه عسكريا وأمنيا في مواجهة كتائب القسام
والمقاومة الفلسطينية.
اللافت أيضا، أن القاهرة ومع تأكيدها على رفض التهجير، لم تقم مع جامعة
الدول العربية ولا منظمة التعاون الإسلامي بمستلزمات تنفيذ القرار الذي أخذوه في القمة الطارئة في الرياض، في
11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، لتثبيت سكان غزة في أرضهم، بكسر الحصار وإدخال
المواد الإغاثية والطبية والوقود إلى غزة فورا، ما يضع علامة استفهام على هذا
السلوك المجانب لمقتضيات الجِوَار والعروبة وحقوق الإنسان.
فكرة التهجير ليست مجرد خطاب إعلامي يظهر ويختفي، وإنما مشروع يجري محاولة تنفيذه، ولعل زيارة رئيس جهاز الـ"CIA" وليام بيرنز إلى المنطقة قبل عدة أيام والتقاءه برئيس الموساد الإسرائيلي وبعدد من رؤساء أجهزة المخابرات العربية، يشير إلى أن هناك أمرا مهما وخطيرا يجري الإعداد له
وعلى صلة بالموضوع، أبدى العديد من المراقبين توجّسهم من توقيت إعلان مصر
على لسان رئيس وزرائها مصطفى مدبولي، عن خطة للتنمية الاقتصادية والعمرانية في شمال سيناء بقيمة نحو 363 مليار جنيه (نحو 12 مليار دولار)، خلال
السنوات الخمس المقبلة، في ظل معاناة مصر من أزمة اقتصادية، وفي ظل الحديث عن خطط
إسرائيلية أمريكية لتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء.
وفي ذات السياق، وقبل إعلان مدبولي عن تلك الخطة، كان الرئيس الأمريكي جو
بايدن، في 20 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أرسل مذكّرة إلى مجلس النواب، باعتماد
106 مليارات دولار للتعامل مع "الآثار الإنسانية العالمية" للحرب في
أوكرانيا وقطاع غزة.
وحسب مذكّرة بايدن، فإن من شأن تلك الموارد "دعم المدنيين النازحين
والمتضررين من النزاع، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية، وأن
تلبي الاحتياجات المحتملة لسكان غزة الفارّين إلى البلدان المجاورة".
هذه المؤشّرات تجعل من فكرة التهجير ليست مجرد خطاب إعلامي يظهر ويختفي، وإنما
مشروع يجري محاولة تنفيذه، ولعل زيارة رئيس جهاز الـ"CIA" وليام بيرنز إلى المنطقة قبل عدة أيام والتقاءه برئيس الموساد الإسرائيلي وبعدد من
رؤساء أجهزة المخابرات العربية، يشير إلى أن هناك أمرا مهما وخطيرا يجري الإعداد
له، فمن غير المعقول أن يأتي السيد بيرنز إلى المنطقة ليناقش تمديد الهدنة المؤقتة
في غزة ليوم أو يومين للإفراج عن عشرات الإسرائيليين لدى حركة حماس..!
يبدو أن هناك
شيئا ما يُخطّط له، وينفّذ بشكل غير معلن وبدون ضجيج إعلامي، وقد يكون أحد ملامحه
أو مخرجاته هو تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وما المجازر المستمرة على مدار
الساعة من شمال القطاع إلى جنوبه إلا لدفع السكان إلى النزوح تدريجيا من الشمال
إلى الجنوب ومن غزة إلى خان يونس إلى رفح فإلى سيناء قسرا.
يبدو أن هناك شيئا ما يُخطّط له، وينفّذ بشكل غير معلن وبدون ضجيج إعلامي، وقد يكون أحد ملامحه أو مخرجاته هو تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وما المجازر المستمرة على مدار الساعة من شمال القطاع إلى جنوبه إلا لدفع السكان إلى النزوح تدريجيا من الشمال إلى الجنوب ومن غزة إلى خان يونس إلى رفح فإلى سيناء قسرا
تصريحات
المسؤولين الأمريكيين الرافضة للتهجير القسري، لا تشفع لهم ولا تساعد أي مراقب على
تصديقهم، لأن تصريحاتهم تتناقض مع دعمهم المفتوح للعدوان الإسرائيلي الوحشي على
المدنيين في قطاع غزة، ويمكن تفسير تلك التصريحات على أنها محاولة لذر الرماد في
العيون، ولتخفيف حجم الضغوط الشعبية الداخلية والخارجية على الرئيس بايدن الذي
يعاني من تراجع شعبيته قبيل الانتخابات الرئاسية، بسبب مواقفه الداعمة لإسرائيل في
عدوانها على غزة.
الاحتلال
الإسرائيلي بدوره يظن أنه قادر على إنفاذ ذلك السيناريو بأعلى قوة نارية ممكنة باستخدامه،
خلال مدّة زمنية قصيرة، لأفتك سلاح أمريكي، حصل عليه بعد زيارة وزير الخارجية
أنتوني بلينكن الذي غادر تل أبيب بعد سويعات من تجدّد العدوان على غزة في الأول من
كانون الأول/ ديسمبر الجاري، فنجاح ذلك السيناريو المفترض، سيعني للاحتلال فسحة
لإعادة رسم مستقبل قطاع غزة وفقا لأجندته الأمنية والسياسية، والتي قد ترقى في ظنّهم
إلى ضم قطاع غزة حسبما ورد على لسان وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
مع حجم الدمار
والقتل الوحشي الذي يجري في قطاع غزة على مدار الساعة، ورغم صمت وعجز الدول
العربية والإسلامية المرتهنة للإرادة الأمريكية، إلا أنّ الكلمة الفصل تبقى للشعب
الفلسطيني ولقدرة المقاومة على إفشال مخططات الاحتلال رغم الثمن الباهظ الذي يجري
دفعه من دماء الأطفال والمدنيين العزّل.
الجولة الثانية
من العدوان قد تكون الأشرس والأعنف على كل قطاع غزة، ولكن الذي صمد طوال خمسين يوم
مضت، يمكن له أن يصمد أيضا ويطيح بكل أهداف الاحتلال، ويغيّر المعادلة التي ستكون
لها ارتدادات كبيرة على مستقبل الكيان وعلى المنطقة برمّتها، وعلى من وَقَفَ مع
غزة أو خَذَلها في اللحظة التاريخية الفارقة. فالفلسطيني في قطاع غزة يصمد ويقاتل
وظهره إلى الجدار، ويعلم أن لا خيار إلا أن يكون، وأن هذه المعركة هي معركة فاصلة
في تاريخ الصراع مع الاحتلال والمشروع الصهيوني، وأنها هي المنطلق لرسم ملامح المرحلة
القادمة والمؤسِّسَة لمرحلة التحرير والعودة، بعد أن يستنفد الاحتلال كامل قوّته
وخياراته ويفشل في تحقيق أهدافه.