سجلت النسبة الأدنى للمشاركة في الانتخابات الأخيرة، قياسا إلى جميع الانتخابات التي جرت في
العراق منذ عام 2005؛ فقد بلغت نسبة المصوتين إلى العدد الكلي للناخبين، 26.7 فقط. أما النتيجة التي أعلنتها المفوضية، وهي 41٪ فلم تكن لنسبة المصوتين إلى العدد الكلي للناخبين، بل لنسبة المصوتين ممن لديهم بطاقات انتخابات بيومترية. وهذه أول مرة تعتمد فيها مفوضية الانتخابات على هكذا معيار خادع للتحايل على النسبة المتدنية للمصوتين.
ولا يمكن تفسير هذا العزوف الكبير بمقاطعة الصدريين للانتخابات وحسب، بل لعزوف الناخبين أصلا عن التصويت، وعن استلام بطاقات الانتخابات البيومترية. فأكثر من ثلث من يحق لهم التصويت لم يستلموا بطائقهم.
وقد أدت مقاطعة الصدريين إلى حصول قوى الإطار التنسيقي الحليفة لإيران، على العدد الأكبر من المقاعد في المحافظات الوسطى والجنوبية، باستثناء البصرة وواسط وكربلاء، وبذلك فإن هذه القوى ستحتكر الحكومات المحلية، وهو ما يعطيها إمكانية كبيرة لاستخدام ذلك لتقوية وضعها استعدادا لانتخابات مجلس النواب عام 2025. فقد حافظ تحالف دولة القانون بزعامة نوري المالكي على حضوره القوي في هذه الانتخابات، في حين لم تستطع قوى تحالف «نبني»(الذي يضم القوتين الأبرز في تحالف الإطار التنسيقي، وهما بدر والعصائب، فضلا عن قوى أخرى محسوبة على إيران) من الحصول على ما كانوا يتوقعونه في هذه الانتخابات.
وقد شكلت هذه الانتخابات عودة قوية لتحالف القوى الوطنية بزعامة عمار الحكيم وحيدر العبادي، قياسا إلى النتائج السيئة لهما في انتخابات مجلس النواب في العام 2021.
وكما كان متوقعا استطاع الحلبوسي أن يكتسح انتخابات محافظة الأنبار بحصول القوائم الثلاث التابعة له، وهي تقدم والأنبار هويتنا وقمم، على 11 مقعدا من مجموع 16 مقعدا، وهو بذلك سيسيطر على الحكومة المحلية، من خلال استحواذه على منصبي المحافظ ورئيس مجلس المحافظة.
وقد أفرزت انتخابات كركوك عن حصول القوائم الكردية على 7 مقاعد في مقابل 6 مقاعد للقوائم العربية، ومقعدين للقائمة التركمانية، مع مقعد للكوتا المسيحية قريب من القوائم العربية. وهذا يعني أنه إذا استطاع الحزبان الكرديان تجاوز خلافاتهما، فإن المقعدين التركمانيين، فضلا عن مقعد الكوتا، سيكونون مهمين جدا سواء للكرد أو للعرب لضمان الحصول على منصب المحافظ ذي البعد الرمزي في سياق الصراع القومي في المحافظة.
واستطاع حزب السيادة بزعامة خميس الخنجر أن يحصل على 14 مقعدا، مع حصوله على أربعة مقاعد أخرى ضمن تحالفات محافظة كركوك، وهو ما يجعله الفائز الأول على مستوى الأحزاب وليس التحالفات في هذه الانتخابات.
لا يمكن ضمان انتخابات نزيهة وعادلة وشفافة في العراق، وأن التزوير وتغيير النتائج عملية منهجية ومؤسسية تتواطأ سلطات الدولة ومؤسساتها بينها لتحقيقها، بما فيها مفوضية الانتخابات والهيئة التمييزية القضائية
من الملاحظات المهمة الأخرى أنّ أيا من القوائم الشيعية أو السنية، لم تستطع فرض نفسها كرقم صعب في المعادلة الانتخابية، وظل الجميع متقاربين في نتائجهم. فيما لم يستطع التشرينيون، أو القوائم المحسوبة عليهم، أن يحصلوا على مقاعد كثيرة في هذه الانتخابات، وقد تراجعوا كثيرا عما حققوه في انتخابات عام 2021. كما أن حصة النساء لم تستطع أن تتجاوز الكوتا المقررة لها، وهي نسبة الـ 25٪ من عدد المقاعد.
لكن الملاحظتين المهمتين هنا، هي أولا أن نتائج هذه الانتخابات كرست ثنائية الزبائنية والسلاح، وهما العاملان المؤثران في نتائج كل الانتخابات في العراق. وأن نظرية القبان في اللهجة العراقية، لا تزال حاكمة لنتائج الانتخابات، ونعني بها التدخلات التي تقوم بها جهتان، هما المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والهيئة القضائية التمييزية الخاصة بالانتخابات، من أجل تغيير النتائج لأسباب سياسية تتعلق بعلاقات القوة أو بالصراعات الرمزية! ومثال ذلك أن قانون الانتخابات يشترط أن يكون المرشح للانتخابات «غير مشمول بأحكام إجراءات المساءلة والعدالة» وأن ترسل المفوضية أسماء المرشحين إلى هيئة المساءلة والعدالة «للبت فيها خلال 15 يوما من تاريخ استلامها».
لكن هيئة المساءلة والعدالة وبتواطؤ مع مفوضية الانتخابات، عمدت، في الانتخابات الأخيرة، إلى شطب الفائز بكوتا المسيحيين في محافظة البصرة لشموله بإجراءات المساءلة والعدالة، بعد شهرين فقط من قرار صدر عن الجهتين ذاتيهما، بأنه غير مشمول بهذه الإجراءات! ولا يمكن فهم هذا الشطب إلا في إطار نظرية القبان فالفائز محسوب على تحالف «تصميم» التي حصلت على 13 مقعدا في الانتخابات، في مقابل 10 مقاعد لقوى الإطار التنسيقي، وكان لا بد من شطبه لضمان صعود مرشح كوتا محسوب على الإطار التنسيقي كي ترفع مقاعده إلى 11 مقعدا، وهو سيناريو قابل للتكرار مرة أخرى عبر الهيئة التمييزية القضائية التي تنظر في الطعون المتعلقة بالانتخابات، لكي يفقد تحالف «تصميم» الأغلبية المطلقة في مجلس المحافظة، أو اللجوء إلى الوسيلة التقليدية التي تتبع أية انتخابات عراقية، وهي شراء عضو مجلس محافظة فائز من تحالف تصميم، عبر منصب أو عبر المال، وبالتالي إفشال خطته بالحصول على منصب المحافظ!
المثال الآخر المتعلق بالصراعات الرمزية، حصل في محافظتي ديالى وبغداد، فوفقا لنتائج الانتخابات الأولية فقد فازت القوائم السنية في محافظة ديالى بـ 8 مقاعد من مجموع 15 مقعدا، وهو رقم يضمن حصولهم على منصب المحافظ، ولو نظريا، بسبب حصول القوائم الشيعية على 6 مقاعد فقط، وحصول الاتحاد الوطني الكردستاني على مقعد واحد. وبالتالي كان لا بد من استخدام نظرية القبان لإعادة توزيع المقاعد لتفقد القوائم السنية مقعدا، يفقدها معه إمكانية الحصول على منصب المحافظ، وبالتالي حصول القوائم الشيعية على هذا المقعد لتصبح مقاعدها 7.
ومع التحالف التقليدي مع الاتحاد الوطني سيتم ضمان منصب المحافظ في المحافظة التي تشهد صراعا هوياتيا حادا!
في بغداد كان الوضع أشد رمزية، فعند إعلان نتاج الانتخابات الأولية، حصلت قائمة «تقدم» السنية على المنصب الأول في المحافظة، وهو ما أعاد الجدل حول هوية بغداد، لهذا كان لا بد من العودة إلى القبان مرة أخرى، لتحصل قائمتا «نبني» و«دولة القانون» على المركزين الأول والثاني، بعد أن حصل كلاهما على مقعد إضافي، وتتراجع «تقدم» إلى المركز الثالث بعد فقدان القائمة لهذا المقعد، فضلا عن فقدان قائمة سنية أخرى هي «السيادة» لمقعد آخر!
قلنا مرارا إنه لا يمكن ضمان انتخابات نزيهة وعادلة وشفافة في العراق، وأن
التزوير وتغيير النتائج عملية منهجية ومؤسسية تتواطأ سلطات الدولة ومؤسساتها بينها لتحقيقها، بما فيها مفوضية الانتخابات والهيئة التمييزية القضائية، بل إن قانون الانتخابات نفسه يصمم خصيصا لضمان نتائج الانتخابات!