ما أبعد الجسد وأقرب الروح!
من يسمع قصائدها وأغانيها يظنها تمشي في حواري القدس وتحصد في حقول
القرى وغلال بيادرها وتخبز في طوابينها وتعصر زيتونها وتخزنه في خوابيها.. ولكن من
يعرف غربتها سيستبعد أن تستطيع كتابة سطر واحد عن
فلسطين.
أصدق من تجسدت فيه مقولة: بعيد الجسد وقريب الروح، تكتب شعراً في
اليوميات الفلسطينية. تكتب أناشيد الثورة والعشاق من قلب الأحداث.. تحمل أوجاع
فلسطين وترانيمها في شعرها المليء بالحنين والغربة.. من خلف المحيطات تحمل وطنها
في قلبها، فتكتب كأنها تختزل المحيطات والشتات في كلماتها.
وهي اليوم ككل أبناء شعبها، تتابع الأحداث وتتفاعل معها من مكانها
وتكتب القصائد والأغاني وتنشرها، ويتلقفها الفنانون فور صدورها، وربما قبله.. حيث
عرف المنشدون هذه
الشاعرة "الصيدلانية" منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.
إنها الشاعرة المبدعة مريم العموري
أعرفها منذ نحو عشرين عاماً، منذ أيام المنتديات والشبكات في العالم
الافتراضي.. مليئة بفلسطين؛ بأحلامها وأوجاعها وناسها ويومياتها ووقائعها
وأمجادها.. تواصلنا حين كانت تكتب الأناشيد، وأتاحت لي الفرصة للمشاركة في ألبوم
عن الشيخ أحمد ياسين بأغنية شعبية. كان قد سبق لها أن كتبت كلمات ألبومين مشابهين
هما: "عياش والوطن" و "خنساء فلسطين". كما أن بدايتها كانت مع
ألبوم "لوحات مقدسية"، حيث كتبت أناشيد: سلام عليك، ودعتنا، جلاء
الغريب، إلى أين تمضي، وموشح مقدسي (الموشح منشور أدناه).
هي الشاعرة والأديبة مريم العموري، من قرية بيت جيز قضاء الرملة في
فلسطين، تهجّرت العائلة إلى أكثر من مكان، كان نصيب أهلها قريتَيْ أبو ديس
والعوجا، وهاجر أهلها لاحقاً إلى القارة الأمريكية، حيث ولدت في الشتات البعيد؛ في
بورتوريكو عام 1972، وعاد الأهل إلى الأردن، وسكنوا في مخيم البقعة للاجئين حيث
قضت طفولتها هناك ودرست المرحلة الثانوية في مدارسه، ثم تخصصت بالصيدلة في الجامعة
الأردنية وتخرجت سنة 1995، وانتقلت بعد الزواج إلى الولايات المتحدة الأمريكية
وعملت وما زالت في مجال الصيدلة.
ورغم تخصصها في الصيدلة، كانت تتردد في الجامعة إلى أقسام الأدب
والفلسفة ومكتباتها، "كنت أقرأ كتباً ومجلات في النقد والشعر والنحو
والفلسفة، سواء من القديم أو الحديث، فبجانب كتاب "الفارماكولوجي" كان
كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ، وقمت بقراءة كتاب "وحي القلم"
للرافعي، بينما كنت أنتظر نتائج التجارب، في مختبر للصيدلة الصناعية".
تكتب الشعر بأنواعه والأناشيد الفصيحة والعامية، وكتبت كلمات أكثر من
ألبوم، كما نشرت ديوانها "إلى غرب القلب". وفازت قصائدها الإنشادية
والغنائية عن فلسطين بأكثر من جائزة، وهي من أهم الأسماء في هذا المجال.
كتبت الشعر العامي باللغة التي تتكلم بها، لغة الفلاحين، من أهازيج
النساء الفلسطينيات في الأعراس، ومن المرأة الفلسطينية التي تغني لابنها العريس
ولطفلها الصغير ولحاكورتها وللمونة والطابون ويوميات القرية.
أما القصائد التي كتبتها للنشيد، فهي أكثر من التي نشرتها في الكتب،
من أبرزها نشيد "شمس تقبّل روحه"، وأناشيد "راجع"
و"البارحة مريت" و "ما يهون عليّ" لفرقة روابي القدس، وأناشيد
"يا مَدَّ الغضب الجبار" و "الشيخ في سكناته" و
"آتون"، ومجموعة أناشيد لبرنامج تلفزيوني بعنوان "طفولتي
والحجر"، وأغنية "أبحث عنكم" التي فازت بالجائزة الذهبية عن أغنية
الطفل في مهرجان القاهرة التاسع.. وغيرها. وكذلك مجموعة كبيرة من أناشيد الأطفال.
لا تحب مريم العموري أضواء الإعلام، وتتجنبه. وزادت الأحداثُ القائمة
وأخبار العدوان على غزة رغبتَها في العزلة، حيث كما حدث مع غيرها من النجوم، فضلوا
أن يفعلوا المفيد في التأثير بدلاً من البروز الإعلامي.
نماذج من شعرها
إلى أن نعود
ظِلالٌ رماديّةٌ تستبيحُ المدى المستكينْ
وبحرٌ عَبوسٌ يدُسُّ الأذى في زوايا السفينْ
ولا شيءَ في الأفقِ إلا نشيجُ نوارسَ
عندَ المغيبْ
هنالك خلف الحواجزِ.. يؤنس وَحدتنا في خِضمِّ المحيطِ..
ووَسْطَ الجليدْ
وقوفاً نؤبُّ إلى لحظة المنتهى علّها إنْ بدتْ
يبتدي عُمرنا من جديدْ
وقوفاً، وما ثَمَّ من حولنا غير هذا الضباب البليدْ
وعيد يمرّ على غفلةٍ من عيون الخفير..
يهيّجُ في القلبِ جرحاً عميقاً.. يَنِـزُّ أسىً.. ولظىً
وصديدْ
فنرنو إليهِ، ونرجو: أيا عيدُ لو مرة لا تجيءُ
فما عاد في الجسم لو قيدَ شبرٍ لحزن جديدْ
يغيبُ.. فنرجوه كيما يعودْ..
ويأتي ونرجوهُ أن لا يعودْ..
ونذْرو إليهِ بكل اعتبارٍ.. وكل اعتذارٍ
نموءُ:
حنانيكَ يا عيدُ..
لا تعتبنَّ.. فإنا نحبكَ..
نعشق أهدابَ صبحِكَ..
نعشق رجْعَكَ بين اليمامِ..
يغازلُكَ النورُ فوق المآذنِ.. الله أكبرْ..
ونعشق أنفاسكَ المترَعاتِ بشهد التَّسابيحِِ
نعشق وردك لما تقَـطـَّرُ بين الأكفِّ، وحَرِّ العناق..
عطوراً تميسُ مع الريحِ..
نعشقُ ضحكك بين المراجيحِ..
تعلو.. فتعلو.. فينهلُّ بِشْرُكَ غيثاً على شفَة القلبِ..
تُحيي مغانيهِ
الله أكبرْ
خذي روحنا يا نوارسُ..
لا تتركيها وحيدةَ ليلٍ.. سجينةَ أضلاعنا الناحلاتِ
خذيها مطوّقةً بالأغاني وملفوفةً بشغاف الهوى
ورفيفٍ من السوسناتِ
توسّطُ غمْراً من الشوقِ.. حفلاً من القُبَلِ العاطراتِ
خذيها إلى ساكنيها..
فهم وحدهم يفهمون المعاني وبيت القصيدْ
خذيها وهاتي لنا من هواهم..
هواءً.. وصبحاً.. وأحلى بريدْ
موشّح مقدسي
جادَكَ الوجدُ أيا طيفاً سَلا .. مهجةً هامت ببيتِ المقدسِ
ضَمَّها شوقٌ غريمٌ ما قلى .. لَكنِ البينُ شديدُ
الغَلَسِ
يا لِصبٍّ ضاقَ من بُعدٍ فضا .. وذوى في لوعةِ المغتربِ
خاشعٍ ينشدُ ألطافَ القضا .. تائهٍ
في فكرِهِ المضطربِ
ليت ما كان حميماٍ ما مضى .. وانقضى عهداً بعيدَ
الأربِ
يا فؤاداً شدَّ رحلاً وطوى .. لُججَ البُعدِ تجاهَ
الصخرةِ
قد براه الحزن دهراً ولوى .. نبضُهُ جرحٌ شديدُ
العنتِ
رَوَّعَ الوصلَ قفارٌ ونوى .. فاغتدى القلبُ طريحَ
العلَّةِ
أين من جِيَّانَ أنسامُ التَّلاقْ .. داعبت أشجانَ خِلٍّ وخليلْ
أين نجوى العيدِ في ذاكَ الرواقْ .. في اتِّساقٍ قُرطُبيٍّ
مُستحيلْ
أطرقَتْ غرناطُ فاعتلَّ البراقْ .. يذرفُ الدمعَ سخياً وجزيلْ
أمسِ غابَ النورُ عن أندلسا .. وغدا الآن حبيسَ الأرقِ
مُشفقاً أُسوانَ يشكو دَنَسا .. أنّ في محرابِهِ المحترقِ
ليس يَجلو قلبَهُ المُبتَئِسا .. غيرُ ماءٍ صاغَ لونَ الشفقِ
عن طفل في الزلزال
تعالَ أحبّكْ
تعالَ أضمّكْ..
تعالَ حبيبي
أُذوِّبُ عمري شُموعًا لِعامِكَ.. فانفخْ على لَهَبي وتَمَنَّ
فكَم يا حبيبي احترفتُ غيابيَ كي لا أروّعَ باليأسِ حُلمَكْ..
وأقنعتُ نفسيَ أنّي أعيذُك من قَهْر نفسي..
وها أنّني قد جثوتُ ببابكَ.. أَطرُقهُ بِرجائي ويأسي
فَهلّا أذِنْتَ لِقلبي..
لأفديكَ يا حبّةَ العينِ، قلبي
وأُنْسِيكَ رِدَّةَ هذا الزمانِ
وأَرقيكَ في هَدْهَداتِ حناني
وريشِ الأغاني
أَيَا ليتني دُمْيَةٌ في الحطام
لِتنشلَني من هَواني
وتحضنني لائذاً بأماني
يدبُّ بيَ السَّحرُ
تُومِي..
فيَمْثُلُ بين يديكَ الربيعُ..
ويهفو لعينيكَ، من سِدْرةِ الحُبِّ، سربُ حمامْ
يناغيكَ..
يُثْمِلُهُ من رِضاكَ.. ابتسامْ
ويَندسُّ تحت جناحكَ..
دفآنَ
مِلْءَ الحنينِ
ومِلْءَ الشَّآم..
ويهديكَ من روح من فارقوكَ..
صلاةً ويَسمينةّ وغرامْ
حبيبي
سيأتيكَ ما أودعوهُ.. مع الغيبِ
في شكل زاجِلةٍ وغَمامْ
وأيكٍ تدلّتْ عليه النبوءاتُ ناضجةً بسنينكَ..
فامْلأْ سِلالكَ..
واقْرأْ على هاجسِ الرّيح والحربِ
رُقْيَ سلامْ
* كاتب وشاعر فلسطيني