بعيدا
عمّا أثاره طوفان الأقصى من تأثيرات قوية بلغت في الغرب حد التحول الديني (الدخول
في الإسلام) أو تبني السردية الفلسطينية ورفض المواقف الحكومية الرسمية المساندة
لدولة الكيان، وبعيدا عن تلك المواقف الانتهازية العربية التي لا تتجاوز قيمتها
امتصاص الغضب الشعبي والتهرب من تحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية والدينية فيما
يجري من إبادة جماعية في غزة، فإنّ قياس قوة "الطوفان" تفرض علينا تجاوز
التأثيرات المباشرة -رغم أهميتها- والبحث عن تأثيراته الاستراتيجية المتوقعة،
خاصةً في مستوى النماذج الإدراكية/ الفكرية أو ما يُسمى بالبراديغمات (الأطر
النظرية) التي تتحكم في المواقف المختلفة للدول العربية والإسلامية وكذلك للدول
الغربية وغيرها من القضية الفلسطينية.
في
الفضاء العربي الإسلامي، نحن نذهب إلى وجود نموذجين فكريين أساسيين يحددان المواقف
الرسمية والشعبية من القضية الفلسطينية: أما النموذج الأول فهو نموذج الدولة-الأمة
بالمعنى الوستفالي لهذا الكيان. وهو نموذج فكري يحكمه منطق الأمن القومي أو
المصالح العليا للدولة التي هي في الحقيقة مصالح الطبقات المهيمنة اقتصاديا
وثقافيا وسياسيا باعتبارها -في الأغلب الأعم- طبقات ملحقة وظيفيا بالمركز الغربي
في مرحلة الاستعمار غير المباشر. وأما النموذج الثاني فهو نموذج الطائفة-الأمة
الذي يحكمه منطق المذهب والمطابقة بينه وبين "الإسلام". وفي هذا النموذج
ينتقل مركز الإسلام من "القرآن" إلى "الرسول" ومنه إلى الرموز
أو المرجعيات المعتبرة داخل المذهب، ويتحول العدو الوجودي من "الكافر
الملّي" إلى ذلك المسلم المختلف طائفيا والمعادي لهم -بالجوهر والقصد-
باعتبارهم "الفئة الناجية" أو حرّاس ميراث النبوة و"الإسلام
الصحيح".
بحكم قدرة العديد من الكيانات الوستفالية -ومن ورائها مراكز التخطيط الاستراتيجي في الغرب- على توظيف المعطى الديني (بعقائده وفقهه ومخياله) لخدمة أجنداتها السياسية داخل الإقليم، تحولت الطموحات المشروعة للعرب في العدالة والحرية والديمقراطية إلى مشاريع للاحتراب الأهلي ولتغذية الطائفية، ولخدمة مشروع "التطبيع" من وراء تلك "الثورات التصحيحية" التي لا محصول لها إلا مزيدا من الاستبداد السياسي والتزييف الإعلامي والتفقير المُمنهج للأغلب الأعم من "المواطنين"
رغم
اختلاف هذين النموذجين الفكريين من جهة النشأة والرموز ومجال الاشتغال والتأثير،
فإنهما يتعامدان وظيفيا لتكريس واقع الصراع بين جناحَي الأمة (أي السنة والشيعة)
ومنع توحدهما لنصرة "أولى القبلتين" أو للتحرر من التبعية لمراكز القرار
الصهيو-صليبية في الغرب، أو على الأقل لبناء نصاب سياسي "وطني" متحرر من
الطائفية.
فبحكم
قدرة العديد من الكيانات الوستفالية -ومن ورائها مراكز التخطيط الاستراتيجي في
الغرب- على توظيف المعطى الديني (بعقائده وفقهه ومخياله) لخدمة أجنداتها السياسية
داخل الإقليم، تحولت الطموحات المشروعة للعرب في العدالة والحرية والديمقراطية إلى
مشاريع للاحتراب الأهلي ولتغذية الطائفية، ولخدمة مشروع "التطبيع" من وراء
تلك "الثورات التصحيحية" التي لا محصول لها إلا مزيدا من الاستبداد
السياسي والتزييف الإعلامي والتفقير المُمنهج للأغلب الأعم من "المواطنين".
ونحن لم نضع كلمة "مواطنين" بين ظفرين إلا لأنها مجرد مجاز في واقع
سياسي لم يبلغ فيه العرب مرتبة "الرعايا" في نظام ملكي يحكمه
"مستبد عادل".
بصرف
النظر عن المآلات العسكرية والسياسية لـ"طوفان الأقصى"، فإن هذا الطوفان
قد جاء يؤكد أن نموذجي الدولة-الأمة والطائفة-الأمة هما نموذجان متصهينان
بالضرورة، أي نموذجان مستلحقان واقعيا -عن قصد أو بدون قصد- بالمشروع الصهيوني،
باعتبار "
الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية". كما أن طوفان الأقصى قد
جاء ليغير فهمنا لمعنى "إسرائيل الكبرى". فإذا كانت السردية التلمودية
تفترض "التهويد" عبر الاحتلال المباشر للأرض، فإن علمنة تلك السردية في
الصهيونية يعني الاستغناء -ولو مؤقتا- عن التهويد بالقوة العسكرية إلى سياسة
"الصهينة" أو التهويد غير المباشر التي يكون هدفها النهائي صهينة الوعي
الجمعي. فالكيان -ومن ورائه الغرب الصليبي المتصهين- لا يحتاج إلى احتلال دول
يمكنها أن توفر له كل ما يحتاجه دون إراقة قطرة دم واحدة أو إنفاق دولار من أموال
دافعي الضرائب في الغرب.
لقد
أكدت مسارات التطبيع أن المشروع الصهيوني يحتاج فقط أن يكون على رأس الدول
"العربية" أنظمة غير شرعية متصهينة لا علاقة لها بشعوبها؛ إلا من جهة ما
تمارسها عليها من إذلال وتفقير وتجهيل. ولا يهم شكل تلك الأنظمة العربية (ملكية أو
جمهورية)،
استشعار الغرب لخطورة "المقاومة" (بجناحيها السني والشيعي) لا يأتي فقط من قدرتها على إرباك مسارات التطبيع أو تهديد الكيان "وجوديا"، بل إن خطورة المقاومة تأتي أيضا من قدرتها على نزع الشرعية أو المصداقية من نموذجي الدولة-الأمة والطائفة-الأمة باعتبارهما الحليف الاستراتيجي للمشروع الصهيوني في المنطقة وخارجها
كما لا يهم أنماط شرعيتها، بل لا يهم معاداتها الخطابية للكيان أو
اشتراطها الكاذب لحل الدولتين للتطبيع معه، ما دامت كلها في خدمة المشروع الصهيوني
في المنطقة، بل حتى خارج الإقليم كما هو الشأن في كل القضايا التي يحتاج فيها
الغرب إلى أموال العرب أو إلى مواقفهم الديبلوماسية (مثل قضية أوكرانيا أو قضايا
دول غرب أفريقيا وغيرها).
ولا
شك عندنا في أن استشعار الغرب لخطورة "
المقاومة" (بجناحيها السني
والشيعي) لا يأتي فقط من قدرتها على إرباك مسارات التطبيع أو تهديد الكيان
"وجوديا"، بل إن خطورة المقاومة تأتي أيضا من قدرتها على نزع الشرعية أو
المصداقية من نموذجي الدولة-الأمة والطائفة-الأمة باعتبارهما الحليف الاستراتيجي
للمشروع الصهيوني في المنطقة وخارجها.
إن
الخطر الأعظم الذي تمثله المقاومة يأتي من أنها تقدم نموذجا إدراكيا جديدا. وهو
نموذج يتجاوز الدولة-الأمة والطائفة-الأمة على حد سواء. ونحن لا نزعم أن
"المقاومة الإسلامية" بجناحيها السني والشيعي قد تخلصت نهائيا من
خلفيتها/مرجعيتها الطائفية، ولكننا نقول بأن الالتقاء بين جناحي المقاومة يمثل
خطوة عملاقة في كسر الأنساق المذهبية.
وقد
يتفاجأ القارئ إذا ما قلنا بأن المقاومة تبشر بميلاد حركة "إسلامية"
للمرة الأولى في التاريخ، فكل الحركات الإسلامية هي في الحقيقة حركات
"طائفية" لا يحضر فيها الإسلام القرآني بقدر ما يحضر إسلام الطائفة أو
إسلام التاريخ. ونحن نذهب إلى أن معيار "الإسلامية" هو أن يجد كل
المسلمين أنفسهم في أي خطاب يزعم أنه خطاب إسلامي (وهو أمر لا يوجد من قبل أن
ينبجس صبح المقاومة "الإسلامية" المتوحدة حول مطلب تحرير "أولى
القبلتين"). ولا شك عندنا في أن خطاب المقاومة هو خطاب إسلامي صميم يتجاوز
الطائفية بالدفع بها إلى خلفية المشهد، أو على الأقل هو خطاب سيمهد لتجاوز
الطائفية في المستوى الاستراتيجي.
استطاع طوفان الأقصى أن يضع "المواطن الغربي" أمام هذه الحقائق ممهدا لميلاد مقاومة "مواطنية" لمراكز النفوذ المتصهينة، باعتبارها أداة استعباد وتهميش لإرادة الغربيين قبل غيرهم من ضحايا النظام العالمي المتصهين. ونحن على يقين من أن أصحاب هذا الوعي الجديد سيكونون بالضرورة حصنا متقدما للدفاع عن القضية الفلسطينية وحليفا موضوعيا للمقاومة، بل سيكونون لبنة هامة في صرح "الاستبدال العظيم"
إذا
ما خرجنا من الفضاء العربي الإسلامي ونظرنا إلى تداعيات الطوفان في الغرب، فإننا
سنجد أنه قد أثبت زيف نموذج الحداثة (وهو النموذج المرجعي للدولة- الأمة وللطائفة-
الأمة سواء بالتبني أو بالرفض والمنازعة) وتهافت ما يدعيه ذلك النموذج من قيم
كونية وعلمانية. كما أثبت الطوفان حقيقتين هامتين: أولا الروح الصليبية
والاستعمارية للغرب، تلك الروح التي لم تختف بعد مسارات العلمنة الطويلة وبعد
مشاريع "الاستقلال الصوري" التي رافقت نشوء الدول الوطنية في دول الهامش
(ومنها الدول العربية)، ثانيا هيمنة الصهيونية باعتبارها سقف التفكير الغربي أو
مرجع المعنى النهائي في كل تعبيراته الفلسفية والسياسية والحقوقية وغيرها؛ منذ
تكوين دولة الكيان وبلوغ الإمبريالية لحظتها الصهيونية (بهيمنة المال اليهودي على
إنتاج الثروات المادية والرمزية وتحالفه مع المسيحية المتصهينة، خاصة الكنائس
البروتستانتية في أمريكا، وكذلك بسيطرته على الإعلام وعلى مصادر التمويل لما يسمى
بـ"المجتمع المدني" في الغرب وفي الدول العربية وغيرها).
لقد
استطاع طوفان الأقصى أن يضع "المواطن الغربي" أمام هذه الحقائق ممهدا لميلاد
مقاومة "مواطنية" لمراكز النفوذ المتصهينة، باعتبارها أداة استعباد
وتهميش لإرادة الغربيين قبل غيرهم من ضحايا النظام العالمي المتصهين. ونحن على
يقين من أن أصحاب هذا الوعي الجديد سيكونون بالضرورة حصنا متقدما للدفاع عن القضية
الفلسطينية وحليفا موضوعيا للمقاومة، بل سيكونون لبنة هامة في صرح "الاستبدال
العظيم" الذي لن يكون مستقره إلا نهاية الصهيونية (أي النظام العالمي الصهيو-صليبي)
وزوال "إسرائيل" وكل الكيانات/السرديات الوظيفية المتصهينة في الوطن
العربي.. ولو بعد حين.
twitter.com/adel_arabi21