عدت لتوي من زيارة لجنوب أفريقيا بدعوة من مجموعة متضامنة مع الشعب
الفلسطيني تدعى "شبكة معلومات فلسطين". ألقيت خلال وجودي هناك عدة محاضرات في ثلاث مدن: بريتوريا وجوهانسبرغ وكيب تاون، حول تطورات القضية الفلسطينية ما بعد السابع من أكتوبر، كما رتبت لي لقاءات بعدد من ممثلي منظمات المجتمع المدني المتضامنة مع الشعب الفلسطيني.
يشعر أنصار فلسطين في
جنوب أفريقيا بالفخر والاعتزاز بحكومتهم التي بادرت، دون غيرها من الحكومات، بتقديم شكوى ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياه بارتكاب إبادة جماعية ومطالبة بإجراءات مؤقتة تأمر بها المحكمة لوقف العدوان المستمر على
غزة منذ السابع من أكتوبر.
يصاحب هذا الشعور بالاعتزاز، إحساس بالواجب تجاه فلسطين من شعب خاض نضالاً مشابهاً لنضال شعب فلسطين، ضد منظومة عنصرية استعمارية شديدة الشبه بالمنظومة العنصرية الصهيونية.
ولعل جزءاً من ذلك هو التعبير عن الامتنان لما كان يحظى به شعب جنوب أفريقيا أثناء نضاله من دعم ومساندة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، وحركات المقاومة المنضوية ضمن إطارها، والتي فتحت معسكراتها في لبنان، وربما قبل ذلك في الأردن، أمام مناضلي المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي كان يقود المقاومة ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتيد)، ليتلقوا التدريب على السلاح وصناعة المتفجرات وغير ذلك من وسائل المقاومة المسلحة.
حينذاك كان المؤتمر الوطني الأفريقي، كما منظمة التحرير الفلسطينية، يصنف إرهابياً من قبل حكومات العالم الغربي، التي كانت، سراً أو علانية، تدعم نظام الفصل العنصري وتمده بمقومات الحياة. وكان حينها الكيان الصهيوني من أكبر حلفاء النظام العنصري في جنوب أفريقيا وكان من ألد أعداء المناضلين ضده، وخاصة المؤتمر الوطني الأفريقي.
حينما تتحدث مع الناس في جنوب أفريقيا عن معاناة أهل فلسطين بسبب المشروع الصهيوني، فكأنك تحدثهم عما عانوه هم لعقود كثيرة بسبب نظام الأبارتيد.
مذهلة بحق أوجه الشبه بين الحالتين. ولعل أهمها على الإطلاق الفكرة التي تأسس عليها المشروعان، ألا وهي "الفوقية العنصرية". ففي جنوب أفريقيا زعم البيض، من بقايا الاستعمار الهولندي البشع، أنهم أرفع مقاماً وأكرم نسباً وأفضل تركيبة، من كل من عداهم من أصحاب البشرة الملونة، فقسموا الناس في البلاد إلى أربع طبقات: البيض، وهم السادة، يليهم الهنود، وهم الوسطاء بين السادة والعبيد، ومن بعدهم يأتي الملونون، وهم من ليسوا بيضاً ولا سوداً ولا هنوداً – من أبناء القوميات الأخرى مثل الملايو أو من المهجنين الذين يفرزهم الزواج بين السود والبيض، ثم في الحضيض يأتي السود، رغم أنهم يشكلون الأغلبية العظمى من الناس، بل هم أهل البلاد الأصليون.
لجأ البيض العنصريون لتبرير هذه الجريمة البشعة في حق البشر إلى "الكتاب المقدس"، يبررون به العنصرية، ويجملون من خلاله ازدراءهم لخلق الله الآخرين، ويستبيحون نهبهم لخيرات البلاد واستئثارهم بها، ويكرسون تحكمهم حسبما يحلو لهم بمصائر العباد.
وهي نفس الفكرة التي يقوم عليها المشروع الصهيوني في فلسطين، من أن اليهود أمة دون الأمم، شعب الله المختار، الذي يحظى بمكانة عند الرب، تعالى الله عما يقولون، لا تنبغي لأحد سواهم من البشر، وأن الرب وعد اليهود أرضاً تقع ما بين النيل والفرات، وأجاز لهم في سبيل السيطرة عليها ارتكاب كل الرذائل، مما يرفضه المنطق السليم وتعافه الفطرة السوية، الأمر الذي جعلهم يستعينون بتفسيرات منحرفة للتوراة المحرفة أصلاً من أجل تبرير اغتصاب الأرض وتشريد الشعب والتنكيل بكل من تسول له نفسه مقاومة عدوانهم.
ومن أفضل ما نشر في شرح جذور هذين المشروعين، وأوجه التشابه بينهما، من حيث الفكرة المؤسسة لهما، كتاب "الكتاب المقدس والاستعمار" لمؤلفه مايكل برايور (The Bible and Colonialism by Michael Prior).
المهم في الأمر أن كلا المشروعين جاءا من الغرب. القائمون عليهما ليسوا من سكان البلاد الأصليين، وإنما جاءوا غزاة مستعمرين، فكلاهما مشروعان استعماريان غربيان. ولا أدل على ذلك في حالة فلسطين من أن اليهود عاشوا في بلاد العرب والمسلمين قروناً في سلام ووئام، وظلوا جزءاً من نسيج المجتمعات المحلية، لم تتسرب إليهم الفكرة الصهيونية إلا في القرن العشرين، وبالذات بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية. بل كان معظم يهود العالم حتى بدء تلك الحرب رافضين للصهيونية، يعارضونها أو ينأون بأنفسهم عنها، كما وثق ذلك إسرائيل شاحاك في كتابه القيم "الأصولية اليهودية في إسرائيل" (Jewish Fundamentalism in Israel by Israel Shahak).
وكما بين ذلك في كتابه الأخير الأستاذ في جامعة أكسفورد آفي شليم "ثلاثة عوالم، مذكرات يهودي عربي" (Three World, Memoirs of an Arab Jew by Avi Shlaim).
ولكن رغم معرفتهم بأوجه الشبه القوية بين مشروع الأبارتيد والمشروع الصهيوني، إلا أنني لمست من حواراتي مع بعض المتضامنين مع فلسطين في جنوب أفريقيا، وخاصة ممن ينتسبون للمؤتمر الوطني الأفريقي، وهو الحزب الحاكم اليوم في البلاد، هو عدم مواكبتهم للأمور التفصيلية، وخاصة في ما يتعلق بما آلت إليه أوضاع منظمة التحرير الفلسطينية منذ مطلع التسعينيات، أي منذ أن انتصروا هم على نظام الفصل العنصري، وتحرروا من أغلال العنصرية، ومنذ أن قررت منظمة التحرير، في نفس تلك الفترة تقريباً، الاعتراف بالكيان الصهيوني، وإبرام صفقة أوسلو، والتخلي عن النضال المسلح من أجل تحرير فلسطين، وذلك مقابل الاعتراف بها من قبل الصهاينة وحلفائهم في الغرب ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وأملاً في أن تُمنح دولة فلسطينية إلى جوار الكيان الصهيوني ضمن ما بات يعرف بحل الدولتين.
سألني أحد القساوسة من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي: "لماذا لم تتمكنوا أنتم في فلسطين من أن توحدوا صفوفكم وتلموا شعثكم، وتعملوا معاً من أجل تحقيق حل الدولتين؟ ولماذا هذا الشقاق المستمر بين فتح وحماس، وهذا التباغض والتدابر بين السلطة الفلسطينية وخصومها؟".. وذكر لي أنهم خلال السنوات الأخيرة من نضالهم ضد نظام الفصل العنصري كانت أبرز إنجازاتهم هي توحيد الصفوف والاجتماع على هدف واحد، ألا وهو إنهاء تلك المنظومة واستحداث منظومة يتساوى فيها الناس ويصبحون شركاء في الوطن، بناء على صيغة "رجل واحد وصوت واحد". ويقصد بذلك النظام الديمقراطي، بما يعنيه من تمكن الجميع من ممارسة حق الانتخاب، وبما يعنيه من سيادة القانون ومساواة أمامه، ومن حماية لحقوق الإنسان الأساسية وللحريات المدنية.
بدأت إجابتي على سؤاله بسؤال قلت فيه: "لماذا أنتم في جنوب أفريقيا ترغبون لنا بما رفضتم أنتم القبول به لأنفسكم؟ ألم يعرض عليكم حل الدولتين في جنوب أفريقيا فرفضتموه واعتبرتم أن كيان الباستونتات الذي كان مقترحاً عليكم إنما هو جزء من مؤامرة على حركتكم المقاومة، بل وعلى شعبكم، ومحاولة لإيجاد كيان هزيل ممزق يوالي منظومة الأبارتيد، يعيش متطفلاً عليها، ويتعاون معها ليدرأ عنها الأخطار؟ أولا ترون ما الذي آلت إليه أوضاع الضفة الغربية منذ أوسلو: غزاها الاستيطان ومزقها شر ممزق وحولها إلى باستونتات تحت إدارة سلطة فلسطينية منزوعة الصلاحيات إلا فيما يتعلق بمهمتها الأولى والأبرز، ألا وهي التنسيق الأمني مع الاحتلال حماية لجنوده ومستوطنيه؟".
لا ريب في أن عدم توفر المعلومات سبب من أسباب عدم وضوح الرؤية لدى المتضامنين، ومنه كذلك استمرار الشعور بالامتنان للقيادة التاريخية لمنظمة التحرير، والمتمثلة بالذات في شخص ياسر عرفات. هذا على الرغم من أن أحدهم كان قد روى لي في زيارة سابقة إلى جنوب أفريقيا حكاية عن نيسلون مانديلا، أنه قيل له ذات يوم إن ياسر عرفات يعتبر نفسه مانديلا فلسطين. فرد مانديلا قائلاً "بل هو بوتوليزي فلسطيني."، وبوتوليزي هو الزعيم الأفريقي الذي كان قد وافق على العمل مع نظام الفصل العنصري منذ وقت مبكر ضمن منظومة حل الدولتين، ولكنه لم يفلح.
ولعل العامل الآخر الذي يساهم في استمرار عدم الوضوح في الرؤية هو انعدام الحسم في خطاب المعارضين لمسار أوسلو. فكثير ممن ناقشوني أشاروا إلى أنهم كانوا يتابعون جهود المصالحة، التي ظلت تبذل وتراوح في مكانها، تقريباً منذ عام 2005، وأنهم كانوا يتساءلون لماذا لم تفلح كل تلك المحاولات لإصلاح ذات البين ورأب الصدع، ولماذا لم تثمر كل تلك اللقاءات بين الفرقاء في القاهرة والدوحة وأنقرة. لا ريب أن البعض على الأقل كان قد تشكل لديه الانطباع بأن الخلاف إنما كان خلافاً على مكاسب لا على مبادئ.
تصادف وجودي في جنوب أفريقيا مع جولة يقوم بها فريق كرة القدم الفلسطيني، حيث تنظم له مباريات مع الفرق المحلية، وإحدى تلك المباريات كانت في مدينة كيب تاون وقت زيارتي لها. شهدت جدلاً بين المسلمين في كيب تاون حول ذلك. بعضهم رأى أن حضور المباراة ومساندة الفريق الفلسطيني جزء من التضامن المطلوب، والقيام به واجب، بينما رأى بعضهم أن هذا الفريق لا يمثل شعب فلسطين وإنما يمثل سلطة رام الله، التي هي من إفرازات اتفاق أوسلو، والتي تشارك قوات الاحتلال في كتم أنفاس الناس داخل الضفة الغربية. ولعل مما زاد في قناعة الطرف الثاني بوجوب المقاطعة حضور جبريل الرجوب، والذي يعتبر في نظرهم أحد رموز التنسيق الأمني مع الاحتلال، إلى جنوب أفريقيا، ومرافقته لرئيس البلاد في حضور المباراة التي نظمت في كيب تاون.
في جولة أخرى مع المتضامنين، وبعد نقاش متكرر حول ما هو المطلوب منهم دعماً لفلسطين، اتفقنا على أن التضامن مع فلسطين وشعبها لا يكون مع فرد ولا مع هيئة أو منظمة من المنظمات، وإنما مع الفكرة، فالفكرة هي التي تدوم، وهي التي لا يطرأ عليها تعديل، ولا تتأثر بما يطرأ على حامليها من تبديل. والفكرة هي أن نضالنا في فلسطين إنما هو نضال من أجل الحرية والكرامة، نضال من أجل تحرير الأرض والإنسان، والتخلص من نظام عنصري، هو ذراع من أذرع الاستعمار الغربي، نضال يرى فلسطين كاملة من بحرها إلى نهرها ضحية غزو خارجي، من حق أهلها أن يقاوموه بكافة الوسائل حتى النصر، بإذن الله. يجب أن يكون ولاء المتضامنين للفكرة وليس لمن يتصدرون لخدمتها أو حملها والنضال في سبيلها، فهؤلاء قد يضعفون أو يتخلون، تحت ضغوط الترهيب والترغيب، أما الفكرة فلا تموت.