آرون بوشنيل هو ذلك الطيار الأمريكي الذي
سكب الوقود على جسمه ليموت حرقا،
احتجاجا على سياسة بلاده تجاه
الفلسطينيين وما يحدث في غزة، مرددا "فلسطين
حرة" قبل أن تلتهمه النيران وتقضي عليه وهو في عز شبابه. اختار الموت احتجاجا
على الإدارة الأمريكية التي لا تزال مصرة على استمرار حرب الإبادة وإضفاء الشرعية
عليها، في مشهد تراجيدي لن ينساه الأمريكيون وإدارتهم بسهولة. فهو ليس إرهابيا،
ولا معتوها، ولا عربيا أو مسلما، إنه ابن المؤسسة العسكرية الأمريكية بامتياز.
في أمريكا أزمة ضمير، والخطوة التي أقدم عليها هذا الشاب الذي يعمل في سلاح
الجو، تُجسد بعمق ومأساوية الصراع الشديد الذي يعاني منه عشرات أو ربما مئات
الآلاف من الأمريكيين؛ بين القيم التي تعلموها في المدارس والجامعات وبين السياسات
التي ينفذها الساسة والعسكريون، والتي بلغت درجة إغداق الأموال الضخمة بدون حساب لصالح
من وصفهم رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت بـ"العصابة"، مؤكدا على أن احتلال غزة ليس
سوى "مجرد خطوة" في مخطط حكومة بنيامين نتنياهو من أجل "تطهير"
الضفة الغربية المحتلة من الفلسطينيين وتفريغ المسجد الأقصى من المسلمين وضم الأراضي الفلسطينية إلى
إسرائيل.
في أمريكا أزمة ضمير، والخطوة التي أقدم عليها هذا الشاب الذي يعمل في سلاح الجو، تُجسد بعمق ومأساوية الصراع الشديد الذي يعاني منه عشرات أو ربما مئات الآلاف من الأمريكيين؛ بين القيم التي تعلموها في المدارس والجامعات وبين السياسات التي ينفذها الساسة والعسكريون، والتي بلغت درجة إغداق الأموال الضخمة بدون حساب لصالح من وصفهم رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت بـ"العصابة"
لهذا تجد الشباب الأمريكي غاضبا في عمومه من سياسة الرئيس بايدن
الذي ضحّى بسمعة بلاده وبمكانتها، حتى أصبحت معزولة على الصعيد الدبلوماسي بشهادة
صحيفة لوموند. لقد كشف استطلاع أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" وكلية
"سيينا" في كانون الأول/ ديسمبر الماضي أن "ما يقرب من ثلاثة أرباع
الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما لا يوافقون على دعم الرئيس بايدن
القوي لإسرائيل في الحرب".
لقد فقدت السياسة الأمريكية قيمتها من الناحية الأخلاقية،
وأصبحت شريكة فيما اعتبره الأمين العام للأمم المتحدة تقويضا لسلطة مجلس الأمن الدولي بـ"شكل قاتل"، مؤكدا على أن
المجلس "بحاجة إلى إصلاح جدي لتركيبته ومنهاج عمله". ومن هي الدولة التي
أضعفت المجلس وأفقدته قيمته الرمزية وكشفت ثغراته القاتلة؟ أليست الولايات المتحدة
التي استعملت سلاح الفيتو ضد كل قرار يمكن أن يدين الكيان الصهيوني؟ فالأرقام الرسمية تكشف استخدام حق النقض "الفيتو" 260 مرة
منذ تأسيس مجلس الأمن الدولي، نصيب الولايات المتحدة منها 114 مرة، من بينها 80
مرة لمنع إدانة حليفتها إسرائيل، و34 مرة ضد قوانين تساند حق الشعب الفلسطيني.
على هذا الأساس لا يمكن
أن تكون واشنطن مصدر ثقة عند الفلسطينيين، لن تكون بلدا محايدا، لقد اختارت أن
تعاديهم بشكل مباشر وبشكل دائم. لهذا السبب سيكون من المستبعد جدا أن يأتي حل عادل
للقضية الفلسطينية عن طريق الإدارة الأمريكية، سواء الحالية أو التي ستحل محلها
بعد الانتخابات الرئاسية القادمة.
ما حصل لغزة المنكوبة ليس سوى دليل على خطورة الصهيونية الأمريكية، ودورها الأساسي في تعميق عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الآن وخلال المرحلة القادمة؛ لأن انحيازها الأعمى إلى الدولة العبرية من شأنه أن يزيد من صعود حركات أقصى اليمين داخل إسرائيل. وهي حركات لا تؤمن بالحوار ولا تقر بمبدأ تقاسم الأرض والبحر والهواء مع غيرهم من الفلسطينيين
السياسة الأمريكية الحالية بصدد تقويض معظم الإنجازات التي شاركت الولايات
المتحدة في إنجازها منذ قرن أو أكثر، وذلك من أجل ترضية مجموعات صهيونية مهووسة
تريد القضاء على فلسطين والفلسطينيين بأي ثمن. إذ لم يدرك الساسة الأمريكيون أنهم
باختيارهم هذا قد حولوا بلادهم الضخمة والقوية فعلا إلى دولة صغيرة؛ تقف وراء
عصابة تكذب وتسرق وتقتل على مرأى ومسمع من الجميع.
وما حصل لغزة المنكوبة ليس سوى دليل على خطورة الصهيونية الأمريكية، ودورها الأساسي في تعميق عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الآن وخلال المرحلة القادمة؛
لأن انحيازها الأعمى إلى الدولة العبرية من شأنه أن يزيد من صعود حركات أقصى
اليمين داخل إسرائيل. وهي حركات لا تؤمن بالحوار ولا تقر بمبدأ تقاسم الأرض والبحر
والهواء مع غيرهم من الفلسطينيين، لهذا لا يمكن التعامل مع هذه الحركات إلا بحد
أدنى من المقاومة الصلبة والقادرة على الدفاع عن الحد الأدنى من الحقوق الوطنية
المشروعة.
ما فعله الطيار الأمريكي المنتحر هو ردة فعل مؤلمة على وضع سياسي واجتماعي
وأخلاقي منهار. لم تعد أمريكا مثالا يحتذى، فهناك رفض عالمي واسع النطاق لما يعرف
بـ"النموذج الأمريكي". فانتحار "آرون بوشنيل" بزيه العسكري
يشبه ما فعله أحد الكتاب اليابانيين الذي قرر أن يقتل نفسه على طريقة الساموراي،
وهو يرى مجتمعه يخضع لمشروع الأمركة بشكل إجباري، فعلم أن اليابان تحولت إلى بلد
ممسوخ بعدما كانت دولة عظيمة.