تتحرك
الصين في
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنذ فترة زمنية ليست بالقصيرة وفقا لنهج تراكمي وتدريجي يستهدف المزيد من النفوذ والتأثير. فقد دفع الاحتياج الصيني الهائل لإمدادات الطاقة الواردة من الخليج بضفتيه العربية والإيرانية (ومن الخليج يستورد العملاق الآسيوي ما يقرب من 60 بالمائة من طاقته) صانعي السياسة الخارجية داخل دوائر الحزب الشيوعي الحاكم إلى العمل المنظم على تطوير التحالفات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع دول المنطقة والدخول في شراكات استراتيجية طويلة المدى.
وعندما اهتزت الأوضاع الأمنية في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أعقاب انتفاضات الربيع 2011، ثم تدهورت بشدة مع اشتعال حرب اليمن واتساع نطاق التهديدات النابعة منها إلى مصافي النفط في الخليج وتراجعت فاعلية الدور الأمريكي الضامن للأمن الإقليمي، انتقل صانعو السياسة الخارجية الصينية من الاقتصادي والتجاري إلى الدبلوماسي والسياسي والأمني بهدف استعادة الاستقرار وضمان إمدادات الطاقة وصون المصالح.
ومهدت في هذا السياق حقيقة تقدم الصين لتصبح الشريك التجاري الأول لكافة دول المنطقة ولتصير صاحبة استثمارات واسعة في مجالات البنية التحتية والنقل والمواصلات وتكنولوجيا الاتصالات والتكنولوجيا عموما، مهدت للانتقال إلى تنظيم القمم الصينية ـ العربية والصينية ـ الإيرانية وتطوير التعاون مع تركيا وإسرائيل وبناء قاعدة عسكرية في جيبوتي ثم إلى الوساطة بين السعودية وإيران لاستئناف العلاقات الدبلوماسية والحفاظ على الهدنة في اليمن.
غير أن الصين أبدا لم ترد
منافسة الولايات المتحدة وإن عارضت الكثير من سياساتها في المنطقة خاصة التدخلات العسكرية المتكررة. لم تسفر المعارضة الصينية عن صراع مع واشنطن، بل حاولت بكين النأي بنفسها عن شبكات أصدقاء وأعداء الولايات المتحدة وأوروبا في الشرق الأوسط والاحتفاظ بعلاقات اقتصادية وتجارية جيدة مع الجميع، من إيران والسعودية إلى الجزائر والمغرب.
وفيما خص مكان ومكانة الصين عالميا، ترجمت قيادة الحزب الشيوعي الحاكم الأمر إلى مجموعة من الأهداف الكبرى أبرزها تحول اقتصاد العملاق الآسيوي إلى الاقتصاد الأكبر، ومشاركة الولايات المتحدة والغرب وروسيا قيادة العالم على أساس مبادئ السلام ونبذ العنف وعدم التدخل في شؤون الغير وحرية التجارة، وتقديم نموذج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مغاير للنموذج الغربي الذي يرى الصينيون علامات فشله وانهياره، وإعادة جزيرتي هونغ كونغ وتايوان إلى الوطن الأم لكي تتم التصفية الشاملة للإرث الاستعماري الغربي. لم يتعجل الصينيون الوصول إلى هذه الأهداف، بل حكمت خطواتهم استراتيجية اليد الهادئة وسياسة تقليل مناسيب الصراع عالميا وإقليميا والثقة في حقائق الاقتصاد والتجارة ستفرض نفسها على السياسة.
لذلك، وبعد نشوب الحرب الروسية ـ الأوكرانية متبوعا بنشوب حرب غزة، لم تغير الصين من توجهاتها وسياساتها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأنتجت خطابا سياسيا متوازنا يطالب بتقليل حدة الصراعات ووقف الحروب ورفض التدخلات العسكرية وتشجيع الحلول الدبلوماسية وبناء السلام ـ حتى حين يتعلق الأمر بخطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر التي تحتاجها الصين كالقوة التجارية الأعظم في عالم اليوم والتي تهددها هجمات الحوثيين وهم وكلاء إيران وهي حليف الصين الاستراتيجي.
لم تسفر المعارضة الصينية عن صراع مع واشنطن، بل حاولت بكين النأي بنفسها عن شبكات أصدقاء وأعداء الولايات المتحدة وأوروبا في الشرق الأوسط
أما روسيا، فقد مكنها قبل نشوب الحروب الروسية ـ الأوكرانية وحرب غزة التراجع الأمريكي من توسيع مجالات فعلها الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتتجاوز العلاقة الخاصة مع إيران والتحالف مع سوريا بمضامينه العسكرية والأمنية إلى الانفتاح على تعاون اقتصادي وتجاري وتصدير للسلاح وعروض لتصدير تكنولوجيا الطاقة النووية في اتجاه مصر، ودول الخليج، والعراق، والجزائر. بل أن روسيا دعمت عودتها إلى الظهور كقوة كبيرة في المنطقة من خلال تدخلها العسكري بالوكالة وعبر ميليشيات فاغنر التي تديرها الحكومة الروسية في بعض الحروب والصراعات المشتعلة إن في ليبيا منذ سنوات أو في السودان منذ العام الماضي.
ومثلما تمكنت الدول الفاعلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من إدارة علاقات وتحالفات متشابكة مع القوى العظمى إبان الحرب الباردة ونجحت، خاصة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، في الحصول على امتيازات استراتيجية حقيقية من «اللعب مع الكبار» تسعى اليوم العديد من حكومات منطقتنا إلى الإفادة من تكالب الولايات المتحدة والصين وروسيا على النفوذ الإقليمي.
وبينما يرحب أعداء الولايات المتحدة كإيران وسوريا باتساع دوري الصين وروسيا بغية الحد من الضغوط الأمريكية فيما خص المشروع النووي للأولى وفيما خص إعادة دمج الثانية في المنظومة العربية، يريد حلفاء واشنطن ألا يقايضوا علاقاتهم التاريخية مع الولايات المتحدة بعلاقاتهم المتطورة مع الصين وروسيا. لا يريد حلفاء واشنطن أيضا أن يضغط عليهم للاختيار بين القوة العظمى التي مازالت تحتفظ بالوجود العسكري الأكبر في المنطقة وهي الولايات المتحدة، وبين قوة عظمى صاعدة هي شريكهم التجاري رقم واحد وتصير اليوم شريكا استثماريا وتكنولوجيا ودبلوماسيا هاما ومؤثرا وهي الصين وقوة عظمى ثالثة لها مواطئ قدم عسكرية تقليدية ولا تمانع في تصدير السلاح وتكنولوجيا الطاقة لسد فجوات في الأمن الشامل لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهي روسيا.
والحقيقة أن مساحات التوافق والتلاقي بين الولايات المتحدة وبين الصين في الشرق الأوسط واسعة وواضحة. فبينما لا تتضرر روسيا وهي منتج ومصدر عالمي كبير للطاقة كثيرا من غياب الاستقرار عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نظرا لارتباطه الطردي بارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، وبينما تتحالف موسكو استراتيجيا مع طهران ودمشق وهما عاصمتان معاديتان للمصالح الأمريكية وتتورط في أوروبا وخارجها في صراعات صفرية مع واشنطن؛ فإن مصالح الصين تلزمها بالعمل على تدعيم الاستقرار في المنطقة ضمانا لإمدادات الطاقة والتجارة وخطوط الملاحة الدولية.
وعلى الرغم من أن الإدارات المتعاقبة في واشنطن وجهت انتقادات عديدة لبكين لكونها لا تسهم لا عسكريا ولا أمنيا وتحرص فقط على الإفادة من القدرات والإمكانات الأمريكية، إلا أن التفضيل الاستراتيجي للاستقرار يقارب بين القوتين العظميين ويفتح العديد من أبواب التعاون بينهما.
في ذات الوقت، لا يلغي تفضيل الاستقرار واقع التنافس المتصاعد بين الصين التي تبحث لنفسها عن قواعد عسكرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبنت واحدة في جيبوتي وبين الولايات المتحدة التي تتخوف على هيمنتها الأمنية التي تضمنها قواعدها وقواتها مثلما لا يلغي واقع القلق الأمريكي من المزاحمة الصينية في المنطقة بعد أن صار العملاق الأصفر الشريك التجاري الأهم للأغلبية الساحقة من بلدانها وتضاعفت صادراته من التكنولوجيا والسلاح واستثماراته في البنى التحتية والموانئ والطاقة المتجددة.