"انتهى وقت الجهاد الأصغر، وبدأ وقت الجهاد الأكبر"،
بهذه الكلمات التي أثبتت الأيام مصداقيتها، افتتح رئيس السلطة
الفلسطينية محمود عباس
ولايته الرئاسية بعد فوزه بالانتخابات عام 2005، وإذا ظنوا أننا نسينا ذلك، فهم مخطئون
طالما أن الذاكرة الفلسطينية ما تزال حية وليست كذاكرة العصافير. نعم لقد قالها حينما
قص شريط الافتتاح لتلك الولاية التي لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي ربما سوى بتدخل ملك الموت.
وبما أنني مررت على موضوع الانتخابات في طليعة المقال، فإنني أعرّج على سؤال لا إجابة
عليه: متى تنتهي ولاية الرئيس في فلسطين؟ وهل هناك فلسطيني واحد في الشتات أدلى بنعم
أو لا في تلك الانتخابات؟ حتى أولئك الذين طوّعوا أنفسهم تحت لواء عباس، هل انتخبوه؟
سؤال برسم الإجابة.
وبالعودة إلى موضوع المقال، يمكننا أن نقول متأكدين، واستنادا
إلى مقولة عباس؛ إن السلطة الفلسطينية الآن في مرحلة الجهاد الأكبر، وأمسك نفسك عزيزي
القارئ عن الضحك حينما تمر على هذه السطور، فالضحك على الرؤساء عيب، ولا أعلم حقيقة
إذا كنا سنطلب مضطرين العودة إلى الجهاد الأصغر، بعد أن أرهقَنا الجهاد الأكبر بسبب
ضراوة المواجهات مع الاحتلال
الإسرائيلي، أو بسبب عديد المعارك التي خاضها أبو مازن،
ومِنْ ثَمّ من حقهم تنفيذ استراحة محارب، يلاحقون خلالها المناضلين والمقاومين في الضفة
الغربية، ويتتبعون أحوالهم.
فالسلطة الفلسطينية ومشتقاتها أصبحت عالة على نفسها قبل
أن تصبح عالة على الآخرين، وكتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح، بدأت تضيق
ذرعا بتصرفات الأجهزة الأمنية وجهادها الأكبر، وراحت تصدر البيان تلو البيان، والتحذير
إثر التحذير، وآخر تلك التحذيرات قبل يومين، حينما حذرت "شهداء الأقصى"
تصرفات الأجهزة الأمنية أصبحت مصدر قلقٍ للفلسطيني لا الإسرائيلي الذي يحتل أرضنا، للفلسطيني الذي يريد أن يتظاهر تضامنا مع شقيقه في غزة، لا للإسرائيلي الذي يؤيد حملة الإبادة الجماعية هناك، للفلسطيني الذي يتمنى أنْ لو يمسي طائر الفينيق كي يرسل ربطة خبز يأكلها لشقيقه الجائع في القطاع، لا للإسرائيلي الذي يدوس على كرامة المدنيين في القطاع بعد أن أثخنت جراحه المقاومة الفلسطينية هناك.
الأجهزة
الأمنية بضرورة الكف على ملاحقة المقاومين في الضفة الغربية، معتبرة أن رجال
المقاومة
خط أحمر لا يُسمح المساس بهم، وذلك بعد اعتقال أجهزة عباس عددا من الشبان، ومحاولة
اعتقال آخرين بينهم قيادي في حركة الجهاد الإسلامي، بالإضافة إلى إطلاق النار بشكل
مباشر على المتظاهرين والجنازات، في مرحلةٍ جديدة من مراحل الجهاد الأكبر الذي أعلن
عنه محمود عباس!
وهذا دليلٌ جديدٌ على أن تصرفات الأجهزة الأمنية أصبحت مصدر قلقٍ للفلسطيني لا الإسرائيلي الذي يحتل أرضنا، للفلسطيني الذي يريد أن يتظاهر تضامنا مع شقيقه في غزة، لا للإسرائيلي الذي يؤيد حملة الإبادة الجماعية هناك، للفلسطيني الذي يتمنى أنْ لو يمسي طائر الفينيق كي يرسل ربطة خبز يأكلها لشقيقه الجائع في القطاع، لا للإسرائيلي الذي يدوس على كرامة المدنيين في القطاع بعد أن أثخنت جراحه المقاومة الفلسطينية هناك، وحوّلته إلى جيش من المعطوبين وأصحاب الإعاقات الجسدية والنفسية وفق
إعلام عبري.
لماذا نكذّب راوية السلطة؟
إن الجهاد الأكبر للسلطة الفلسطينية ومخابراتها أصبح عالة
على الفلسطينيين في الداخل والشتات، ولو آمنّا بالرواية التي نشرتها وزارة الداخلية
في قطاع غزة حول تسلل عناصر من المخابرات الفلسطينية إلى شمال القطاع، لتنفيذ مهام
مشبوهة بتنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي، لَاتُّهِمْنا بالتصديق غيبا دون الاستماع إلى
الرأي الآخر وهو رد السلطة، وذلك أن السلطة نفت، ومن ثمّ لماذا نصدّق حماس ونكذّب
السلطة؟ وبالإجابة على هذا السؤال أقول: نحن لم نصدّق حماس أبدا في هذا الاتهام، بل
كذّبنا السلطة نعم؛ لأنها صاحبة سوابق في ملفات عديدة، ولأنها فعلتها أكثر من مرة، ومن ثم ليس مُستهجَنا عنها هذا التصرف الذي يهدف إلى تحقيق أكبر خدمة مجانية للاحتلال الإسرائيلي، الذي وجد ضالته في مدير مخابرات السلطة ماجد فرج، بعدما رفضت العشائر الفلسطينية التعامل
مع الإسرائيلي تحت ذريعة إدخال المساعدات، إلّا أن الهدف الحقيقي من ذلك هو حرف البوصلة،
والبحث عن شريك فلسطيني بعد وقوع الاحتلال في وحل غزة، ولم يجد خير شريك سوى ماجد فرج
الذي جاء تحت مسمّى إدخال المساعدات، متعطشا لحكم غزة، متباكيا على المجاعة فيها، في
الوقت الذي لم ترسل فيه سلطة رام الله حبة بانادول منذ نصف عام على الحرب، أو قارورة
ماء، بل عكفت على منع المظاهرات الداعمة لغزة، ولجم أفواه تلاميذها ومَنْعِهم من الإطراء
أو التحدث بكل ما يتعلق بتاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ولم ترسل إلى غزة شيئا، سوى
ماجد فرج، وعلى ظهر الدبابة الإسرائيلية.
إنّ تكذيبنا لرواية السلطة في هذه القضية تحديدا، نابع
أيضا من جملة المدائح الإسرائيلية التي أُسْبِغَت على ماجد فرج قُبيل إسداء تلك المهمة
إليه، والجدير بالذكر أن المدائح وصلت إليه من شقّي الحكومة والمعارضة الإسرائيلية،
لدرجة أن ماجد فرج يمكن اعتباره شخصية إسرائيل بامتياز، بعدما استفرد بمدائح الساحة
الإسرائيلية المتشرذمة التي تفتقد اليوم إلى شخصية جامعة، بسبب الصراع الدائر بين الحكومة
والمعارضة؛ إثر الفشل الذريع الذي مُنيت به الاستخبارات الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي
في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، ذلك التاريخ الذي سيبقى كابوسا خالدا يتكرر في كل عام، يستذكرون فيه كيف
أصبحت كل قدراتهم العسكرية والاستخبارية ألعابا نارية أمام الغضب الفلسطيني المتصاعد،
وفي خضم هذه الأزمة يأتي ماجد فرج ليحظى بإجماع الكل الإسرائيلي، متفوقا بذلك على بنيامين
نتنياهو نفسه الذي يواجَه بالطعان واللعان، فيما يواجَه فرج بالثناء والعرفان.
شخصيات إسرائيلية زكّت ماجد فرج
في شهر آذار/ مارس الماضي، قالت قناة "كان" الإسرائيلية؛ إن مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي التقى مؤخرا مع ماجد فرج بموافقة نتنياهو، فيما
قالت القناة الـ14 الإسرائيلية إن ماجد فرج بدأ العمل على بناء قوة مسلحة جنوب قطاع
غزة، تتكون من عائلات لا تؤيد حركة حماس لتوزيع المساعدات من جنوب القطاع إلى شماله،
قبل أن تعلن قناة "كان" أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت اقترح تولي
رئيس مخابرات السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزة مؤقتا بعد انتهاء الحرب، وأن إسرائيل
تدرس "استخدام" رئيس المخابرات الفلسطينية لبناء بديل لحركة حماس في اليوم
التالي للحرب، بينما ينص المقترح على أن يتولى ماجد فرج إدارة غزة بمساعدة شخصيات، ليس
بينها عضو في حركة حماس.
وقد وضعت كلمة "استخدام" بين قوسين، لترى عزيزي
القارئ كيف يتم استخدام فرج، ولترى كيف يمكن أن يصبح مدير المخابرات الفلسطينية مُستخدما
لدى سلطات الاحتلال، في الوقت الذي يتمتع فيه مدراء المخابرات في الدول الأخرى بهيبةٍ
لم أرَها أنا كفلسطيني على أي ممن يدّعون تمثيلنا في المحافل الدولية، أولئك الذين
وصفونا بالحيوانات التي تحتاج إلى حماية.
لقد نال ماجد فرج استحسان الحكومة الإسرائيلية، أمّا مرحاه
من المعارضة فهي موجودة كذلك، وعلى أعلى المستويات، فقد قال زعيم المعارضة يائير لبيد
بعد شروع ماجد فرج في تشكيل تلك القوة؛ إنه "من الطبيعي أن نذكر اسم ماجد فرج،
فهو في السلطة الفلسطينية من أكثر الشخصيات التي عملت معنا ضد حماس، والجهاز المدني
الإسرائيلي ليس لديه عائق أمام العمل مع السلطة الفلسطينية؛ لأنه حتى اليوم يعمل معها،
ويجب على الحكومة أن تقرر ما إذا كانت ستتعامل مع السياسة أو أمن إسرائيل، فإذا كان
الأمر يتعلق بأمن إسرائيل، فسنعمل مع السلطة الفلسطينية".
هل يستطيع كائن من كان، وفي هذا الظرف المحتدم في الأوساط
الإسرائيلية، أن ينال استحسان الحكومة والمعارضة دفعة واحدة، إلّا إذا كانت الخدمات
التي قدّمها وما يزال، تفوق توقعات الإسرائيليين أنفسهم؟ ماذا يريد الإسرائيليون أكثر
من ذلك أصلا؟ وهل سوف يوفقهم الله يوما ما بشرطي مرور أفضل وأكثر كفاءة؟ لَعمري إن
ذلك ثمرة من ثمرات الجهاد الأكبر، ومن ثم سيبدأ الفلسطينيون بالعويل: إذا كان هذا
هو الجهاد الأكبر، فأعيدونا باللهِ عليكم إلى الجهاد الأصغر.