قد تبدو التظاهرات التي تكتسح
الجامعات الأمريكية مألوفة، لو تعلق الأمر بقضية غير القضية الفلسطينية، لكن حين يخرج طلاب كبريات الجامعات في الولايات المتحدة بالآلاف نصرة للشعب الفلسطيني، ورفضا للمجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في
غزة، فهذا أمر غير مألوف.
إضافة لذلك، فإن توسع التظاهرات يوما بعد آخر، وكبر حجمها المتزايد، وانتقال الفكرة من جامعة لأخرى، كل ذلك يقول؛ إن هذا تطور مهم، المرجو منه أن يترك أثرا على صناع السياسية المشاركين لإسرائيل في جرائمها بحقنا في واشنطن.
وقد يكون من المبكر الحكم على هذا، لكن من المؤكد أن منظر الشرطة تعتدي على المتظاهرين وتعتقل المئات منهم، سيكون له بلا أدنى شك تأثير على النقاش الأمريكي الداخلي حول تمويل جرائم إسرائيل.
سينتقل الأمر لأروقة الكونغرس وللنقاش الحزبي، خاصة مع تعطيل أعمال الجامعات والتدريس فيها.
وعلينا أن نتفاءل أن مثل هذا النقاش سيعني في جزء منه سياسات واشنطن كلها تجاه إسرائيل، والدعم السياسي المطلق الذي تقدمه لها، الذي كانت آخر صوره الفيتو ضد عضوية فلسطين في الجمعية العامة، والذي أخذ أيضا أصداء مرتفعة في أوساط النخب الأمريكية؛ لأنه جاء في أتون الحرب البشعة التي تدعمها واشنطن ضد شعبنا في غزة.
ومع هذا، لننتبه إلى أن ما حرك هؤلاء هو بشاعة الدم والقتل والدمار، وليس المطالبة بحرية فلسطين، رغم أن بعض الحناجر كانت تهتف لفلسطين حرة، لكن العامل الأساس الذي جعل هذه التظاهرات ممكنة، هو ما تناقلته السوشال ميديا من صور تحرك الحجر والجماد، وأمام صمت العالم ورفضه التحرك للضغط على إسرائيل بأبسط أدوات الضغط، ووقوف واشنطن في وجه الحقوق الوطنية الفلسطينية، واستخدام الفيتو في كل مرة ليس فقط من أجل منع دولة فلسطينية، بل أيضا من أجل وقف الحرب، كل هذا جعل سهولة حشد المؤيدين للتظاهرات من أجل إعلاء كلمة الإنسانية، فيما بدا أنه ضرب بعرض الحائط بكل القيم التي تجعلنا بشرا، وتجعل من وجودنا على هذا الكوكب سمة حضارية لتاريخ الكون.
لنلاحظ أن التظاهرات بدأت في الجامعات الكبرى، حيث النخبة التعليمية الأمريكية، خاصة كولومبيا، التي كان للراحل الكبير إدوارد سعيد حضور كبير فيها، كأبرز مدرسي العلوم الإنسانية، وبعد ذلك أوجدت الجامعة كرسيا باسمه.
وبالطبع أيضا، فإن كليات العلوم الإنسانية والقانون، هي من تحرك ربيع الجامعات بقوة؛ نظرا للوعي المختلف الذي يتكون عند طلابها.
الأمر الآخر، لا بد أن يكون منظر أساتذة الجامعات وهم يخاطبون الطلاب مؤيدين لحراكهم لافتا أيضا.
حتى في أوروبا، فإن طلاب كلية العلوم السياسية هم من تحركوا.
وبشكل عام، فإن الحراك الطلابي الذي بات حقيقة في الولايات المتحدة، سيجتاح جامعات الدول المؤيدة لدولة الاحتلال بشكل كامل، خاصة في غرب أوروبا كما في وسط القارة.
على العالم أن يفيق من غفوته، فما يجري ليس حربا ولا صراعا عاديا، إنه بكل بساطة إبادة جماعية.
أيضا من المهم أن نلاحظ أن التاريخ شهد حالات إبادة جماعية بشعة طول قرونه السابق،ة سواء في مراحله المبكرة أو في عقوده الأخيرة، وأوروبا والمستوطنون البيض في أمريكا الشمالية، مارسوا الكثير من عمليات التطهير العرقي التي ترتقي لتوصيف الإبادة، لكن الذي يحدث في غزة الآن شيء مختلف، فهو يحدث أمام مرأى ومسمع من العالم.
الإعلام الجديد جعل الصور تصل بسرعة كأنها تحدث اللحظة.
لم يعد بمقدور المجرم أن يخفي جريمته. لقد مارست العصابات الصهيونية حرب إبادة جماعية بحق شعبنا خلال النكبة لكن لم يكن ثمة كاميرات ولا صور، كان ثمة روايتان تم ترويج واحدة على حساب الأخرى، كما تم الأمر في مرويات التوراة حول الوجود اليهودي في البلاد.
العالم صدق طرفا وغابت رواية الطرف الآخر. الآن الأمر يختلف بشكل كبير، ثمة حرب إبادة تدور وثمة صور يتم بثها من الضحايا بشكل مباشر، ورغم ما شنته إسرائيل من حرب إلكترونية علينا في غزة مثل قطع الاتصالات والإنترنت وقتل الصحفيين وتدمير المؤسسات الصحفية، فإن حقيقة ما يجري أكبر من أن تتم تغطيتها بغربال.
العالم اختلف بهذا السياق، وضمير العالم الذي قد يميل إلى التواطؤ السلبي مع كل ما يجري بحجة أنه لا يرى ولا يسمع، وعليه لا يستطيع أن يتكلم، لم يعد بمقدوره مواصلة ذلك؛ فكل شيء يجري أمام العالم في صالونات البيوت وفي غرف النوم وفي لحظات الاستجمام؛ فوسائط التواصل والإعلام الجديد باتت رفيقا دائما لكل مواطن في العالم.
وعليه، فإن مفهوم الحرب سيتغير بعد ذلك؛ لأن فكرة أن يقوم جيش بتدمير بلاد ثم يقول؛ إنه انتصر في معركة عادلة، أمر لم يعد ممكنا؛ فالضحية صار سلاحها الأقوى عبر الصورة والصوت التي تبثها للعالم، حتى تقول حقيقة ما يجري ضدها.
وهذه قضية أخرى، لكن تأملها مهم لفهم طبيعة ما يجري من تحولات في المشهد العالمي.
يظل السؤال: هل نستطيع إذا انتهت الحرب نقل هذا الحراك ليكون حراكا مؤثرا في سياسات واشنطن تجاه تبني مواقف إسرائيل؟
بمعنى أن الحرب ستنتهي عاجلا أم آجلا، والتظاهرات والاعتصامات ستتوقف اليوم أو غدا، دون أن يعني أن واشنطن ستقدم نيابة عنا طلبا لعضوية فلسطين، وأنها ستصبح جزائر أخرى أو جنوب أفريقيا أخرى، وعليه فإن علينا أن نعمل الكثير كي نحول هذا الحراك الطلابي إلى زخم حقيقي، لصالح تغير المواقف الأمريكية المعادية لحقوقنا. هذا هو التحدي الأكبر.
(الأيام الفلسطينية)