في نيسان/ أبريل 1958، انعقد في طنجة لقاءٌ تاريخي بين قادة الحركة الوطنية في
المغرب وتونس والجزائر، تم بموجبه وضع اللبنات الأولى للعمل المغاربي المشترك من أجل تحقيق الوحدة والاندماج. بعدها كانت محاولات متعددة في الستينات من أجل لَمِّ شمل دول المنطقة، إلا أن الحدث المفصلي وقع في الثمانينيات، حين تمَّ التئام جمع قادة دول المنطقة الخمس في قمة زرالدة بالجزائر في العاشر من حزيران/يونيو 1988 للتحضير للتأسيس للوحدة المغاربية، التي التأمت في لقاء تاريخي في مراكش في 17 شباط/فبراير للتوقيع على معاهدة بناء
المغرب العربي الممتد من ليبيا شرقا إلى المغرب وموريتانيا غربا.
الحلمُ الذي بدأ كفكرة في طنجة قبل ثلاثة عقود، أصبحت بوادر تحقيقه ممكنة في مراكش، من خلال معاهدة تتوخى تمتين أواصر الأخوة التاريخية بين الشعوب، وخلق الاندماج الاقتصادي والتسهيل من حرية تنقل الأشخاص والبضائع، والحفاظ على الهوية المشتركة وغيرها. في الحقيقة، ما قام به القادة المغاربيون، هو تجاوز خلافات الماضي أو وَضْعِها جانبا، من أجل تغليب مصلحة الشعوب في الوحدة والتكتل والتآزر.
ومن بين القضايا الشائكة التي وضعها القادة المغاربيون آنذاك جانبا، هي قضية الصحراء المغربية. بعد قرار المحكمة الدولية الاستشاري بلاهاي في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1975 بوجود روابط بيعة بين ملوك المغرب وقبائل الصحراء، وهو ما يؤكد سيادة المغرب التاريخية على هذه المنطقة. دعا الراحل الحسن الثاني إلى تنظيم "مسيرة شعبية خضراء" (أي سلمية يحمل فيها 350 ألف رجل وامرأة القرآن الكريم في يد والعلم الوطني المغربي في يد أخرى)، لاسترجاع الصحراء إلى حظيرة الوطن الأم، المغرب. وكان ذلك للملك الحسن والشعب المغربي حين تم التوقيع على اتفاقية مدريد في 14 تشرين الثاني/ يوفمبر 1975، تم بموجبها استرجاع الصحراء لتصبح جزءا لا يتجزأ من التراب المغربي.
ملحمة استرجاع الأراضي المغربية لحظيرة الوطن لم ترُقْ آنذاك للرئيس الجزائري الهواري بومدين والعقيد الليبي معمر القدافي، فقاما بتسليح "البوليساريو" لمناهضة المغرب في صحرائه. والبوليساريو هي فكرة تكونت في الرباط في أوساط طلابية صحراوية، كان هدفها الأولي هو استرجاع الصحراء إلى حظيرة الدولة المغربية، ولكن القذافي شجعها آنذاك على مناوءة النظام المغربي وقام بتسليحها، قبل أن يتبناها بومدين ويقوم بدعمها عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا مما أثَّر على العلاقات بين المغرب والجزائر، وعطَّل فكرة الاتحاد المغاربي في فترة السبعينيات وبداية الثمانينيات.
في أواسط الثمانينيات، كان المغرب قد أكمل جداره العازل حول الصحراء المغربية، ووضع حدّا للهجمات الآتية من التراب الجزائري، كما أنه اتخذ زمام المبادرة الدبلوماسية باقتراح الملك الحسن الثاني في 25 حزيران/يونيو 1981 خلال انعقاد قمة نيروبي للدول الأفريقية تنظيم استفتاء في الصحراء. بعد الخطأ الفادح الذي ارتكبه أمين عام منظمة الوحدة الأفريقية في 1984 بفبركة دخول ما يسمى بالجمهورية الصحراوية (التي لا وجود فعلي لها إلا على الورق) إلى المنظمة الأفريقية، انسحب المغرب من العمل الأفريقي المشترك، واتخذ قرارا بوضع الملف أمام أنظار الأمم المتحدة. بعدها، أدرك العقيد القذافي والرئيس الشاذلي بنجديد ومعهم الزعماء المغاربيون، أن المغرب لن يتخلى أبدا عن الصحراء، وأنه مصصم على الذهاب إلى أبعد حدٍّ لإيجاد حلٍّ يخدم مصلحته الأولى، ألا وهي الحفاظ على وحدته الترابية مهما كلف الأمر.
هذه هي خلفيات قمة مراكش والآمال التي انعقدت عليها، وهي آمال سرعان ما بدأت تتبخر بعد دخول الجزائر ما يصطلح عليه بـ "العشرية السوداء" في التسعينيات من القرن الماضي، عِلْما أن سنة 1991 شهدت التوقيع على وقف إطلاق النار بين المغرب والعناصر الانفصالية المسانَدة من طرف الجزائر، وبداية مسلسل تحديد هوية من سيشارك في الاستفتاء. بعد تعثر مسلسل تحديد الهوية، أعلنت الأمم المتحدة في أواخر التسعينيات أن الاستفتاء هو حل غير قابل للتحقيق، وأنه على الأطراف أن تقترح أفكارا جديدة لحل النزاع المفتعَل. وهو ما قام به المغرب باقتراح حكم ذاتي للصحراويين تحت السيادة المغربية سنة 2007.
كل هذا أثار حفيظة القادة الجزائريين، خصوصا الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وكان لذلك أثر سلبي على العمل المغاربي المشترَك. هكذا تم إلغاء القمة المغاربية التي كان مزمعا عقدها في أيار/مايو 2005 في طرابلس في ليبيا، بسبب رسالة الرئيس بوتفليقة إلى رئيس الحركة الانفصالية (البوليساريو)، التي يؤكد فيها دعمه لهذه الحركة، وهو ما فسره المغرب وقادة الدول المغاربية الأخرى أنه ضرب لأهداف الاتحاد المغربي، خصوصا الوحدة والتكتل، وذلك عبر زرع بذور التفرقة والانفصال.
كلما تقدم المغرب على درب تأكيد مغربية الصحراء، خصوصا مبادرة الحكم الذاتي (2007)، وقرارات مجلس الأمن التي تؤكد مصداقية المبادرة المغربية، وقبول الكونغريس الأمريكي ابتداء من 2014 إدماج الصحراء المغربية في برامج التنمية الدولية الممولة من طرف الحكومة الأمريكية، واعتراف الكثير من الدول بمغربية الصحراء وفتحها قنصليات في العيون والداخلة، التي تُوِّجَتْ بالاعتراف التاريخي للولايات المتحدة في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 2020 بسيادة المغرب على الصحراء، ودخول دول أوروبية (مثل إسبانيا وألمانيا وهولندا وهنغاريا وغيرها) على الخط، مؤكدة مصداقية الحل المغربي (أي الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية)، كلما تقدم المغرب على هذا المستوى، حاول البعض افتعال الأزمات لإبعاد الحلم المغاربي عن إيجاد سبيل له على أرض الواقع.
لكن وحدة المغرب العربي الكبير، هو حلم شعوب المنطقة برمتها. والشعوب تدرك أن هذا الفضاء الرحب الممتد من الكفرة والجوف في الشرق الليبي إلى طنجة وأكادير والداخلة على المحيط الأطلسي، ومن بنزرت شمال تونس إلى انكزام في عمق الجنوب الجزائري، هو غنى جغرافي وإيكولوجي كفيل بخلق فرص التنمية والشغل والازدهار والتكامل والتعاضد، لما فيه مصلحة 105 مليون من الساكنة تتقاسم نفس التاريخ واللغة و العقيدة والمذهب والثقافة وغيرها.
الناتج الداخلي لدول المنطقة يقارب 600 مليار دولار، ولكنه قد يصل إلى واحد تريليون دولار ومائتي مليار دولار في غضون عشر سنوات، إن تم إدماج اقتصاديات دول المنطقة. الاندماج الاقتصادي سيعطي مابين 150 و200 مليار دولار إضافية للمنطقة؛ إذا أضفنا إلى هذا 4 % كمعدل نمو سنوي لاقتصاديات دول المنطقة (أي حوالي 240 إلى 300 مليار دولار) متفرقة، فإن التريليون دولار يصبح في متناول دول المنطقة. وهذا يعني مضاعفة الدخل الفردي على الأقل مرتين، ونمو الطبقة المتوسطة وخلق العديد من فرص الشغل، ناهيك عن فرص الاستثمار والعمل المشترك على المستوى السياسي والدبلوماسي.
لا يجب ترك مشكل قد تم حسمه بشكل شبه نهائي لصالح الوحدة والسيادة المغربية يؤثر على مستقبل شعوب المنطقة. من جانب آخر، لا يمكن تبني الانفصال ومحاولة خلق دويلات غير قابلة للحياة، وفي نفس الوقت الدعوة إلى العمل المغاربي المشترك، وفي بعض الأحيان بطريقة تزرع مزيدا من التشرذم كما حصل مؤخرا حين تم تنظيم لقاءات على مستوى بعض دول المنطقة دون الأخرى. على قادة دول المنطقة التحلي ببعد النظر وطي خلافات الماضي وسن سياسة اليد الممدودة التي نادى بها العاهل المغربي الملك محمد السادس، من أجل تحقيق حلم أبناء المنطقة في الوحدة والتكتل والتكامل لمواجهة تحديات العصر، وللعمل المشترك من أجل غد مشرق وأفضل. لا يجب علينا أن نضحي بآمال الأجيال الصاعدة عبر محاولات يائسة لتغيير مسار ماض ولَّى إلى غير رجعة.
التاريخ سوف لن يرحم من لم يكن على موعد مع طموحات الشعوب في الحرية والانعتاق والكرامة والتآخي، والحق في الأمل وفي مستقبل أكثر عدلا وإشراقا. الحق في الحلم أجمل هدية يقدمها قادة المنطقة لشعوبهم.