قضايا وآراء

"الكتلة التاريخية" أو اللا مفكر فيه عند النخب السياسية التونسية

عادل بن عبد الله
"أكد فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا -ومن بعده نجاح تصحيح المسار في نسف كل المنجز المؤسساتي للتوافقات "الانتهازية"- أن فلسفة التأسيس كانت فلسفة هشة"- جيتي
"أكد فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا -ومن بعده نجاح تصحيح المسار في نسف كل المنجز المؤسساتي للتوافقات "الانتهازية"- أن فلسفة التأسيس كانت فلسفة هشة"- جيتي
رغم إجماع أنصار السرديات الكبرى والفاعلين الاجتماعيين في تونس على مناصرة المقاومة الفلسطينية (ذات المرجعية الإخوانية)، ورغم إجماعهم على تثمين تحالف تلك المقاومة مع "محور الممانعة" الشيعي بقيادة إيران، فإن ذلك كله لم يكن كافيا -على الأقل إلى هذه اللحظة- كي يراجعوا مواقعهم/مواقفهم من الانقسامات العميقة التي عرفها المشهد العام التونسي على قاعدة أيديولوجية؛ تمثّل على الأقل -في المستوى الخطابي- المحدد النهائي للصراع الهوياتي وما صاحبه من عنف مادي أو رمزي بين مختلف الفرقاء قبل الثورة وبعدها.

وإذا كان الالتقاء بين جناحي الأمة (السنة/الشيعة) لا تعلّق له بمفهوم "الكتلة التاريخية" المنحدر من التراث الماركسي (هي مقولة للمفكر اليساري الإيطالي أنطونيو غرامشي)، فإن مفهوم الالتقاء التكتيكي أو التحالف المؤقت مع الخصوم الأيديولوجيين لتحقيق "الهيمنة المضادة" لمنظومة الاستعمار الداخلي -أو على الأقل الحد من هيمنتها بعد الثورة- لم يكن من المفكر فيه داخل الفصائل الماركسية التونسية قبل غيرها.

وسنحاول في هذا المقال أن نطرح بعض الأفكار التي قد تساعد على فهم أسباب هذا الغياب/التغييب لمفهوم "الكتلة التاريخية" وأثر ذلك في فشل الانتقال الديمقراطي وتحول "الديمقراطيين" أنفسهم إلى حليف موضوعي للدولة العميقة، بل تحولهم إلى "طابور خامس" لأي انقلاب على الإرادة الشعبية ومبادئ العيش المشترك.


خلال مرحلة التأسيس والانتقال الديمقراطي -أو ما يُسمّيه أنصار الرئيس الحالي وحلفاؤهم "العشرية السوداء"- كانت قاعدة الالتقاء بين مختلف الفاعلين هي ثنائية الحداثي والإسلامي المجذّرة للانقسامات على الهوية، وليس على أساس طبقي (ماركسي) أو قيمي (إسلامي). وكان الالتقاء بين جميع الفرقاء في المرحلة التأسيسية يتم على أساس الضرورة أو موازين القوى دون وجود أي مشروع وطني مشترك. ولأسباب ليس هذا موضع تفصيلها (مثل انغلاق التيارات الماركسية على أدبياتها الكلاسيكية المعادية لهوية الشعب ولأي مرجعية دينية في إدارة الشأن العام بحكم عدم انفتاحها على لاهوت التحرير أو الأدبيات المفككة للاستعمار ودراسات التابع، وكذلك قرار حركة النهضة التحالف مع ورثة المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة، وتوسيع القاعدة الزبونية لمنظومة الاستعمار الداخلي بدل مواجهة تلك المنظومة وتفكيك أساطيرها التأسيسية)، استطاعت المنظومة القديمة أن تحرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية والقيمية إلى مدار هوياتي كانت هي أعظم مستفيد منه.

النهضة التي اختارت استراتيجيا أن تتصالح مع الدولة وأن تخرج من مربّع مواجهتها، لم يكن عدوها الوجودي هو وريث التجمع غير المؤدلج (ولو كان فاسدا أو مشبوها)، بل كان ذلك العدو هو اليسار الوظيفي الذي سامها العذاب ألوانا باعتباره نواة الجهاز القمعي (الأيديولوجي والأمني) في عهد المخلوع

لقد كان التأسيس للجمهورية الجديدة يتم على أساس "الصفقات" و"التسويات" و"التنازلات" المؤقتة وغير المبدئية، وكان يجري على عين الدولة العميقة وتحت هيمنة سرديتها التأسيسية. وبحكم عجز النخب جميعا عن بناء سردية جامعة مطابقة للمشهد السياسي الجديد ولاستحقاقات الثورة على حد سواء، كان ذلك التأسيس يجري داخل السردية المؤسسة لما يُسمّى بـ"الدولة-الأمة" أو الدولة الوطنية، ودون أي مسافة نقدية من فلسفتها السياسية (اللائكية) ومن خياراتها الكبرى اقتصاديا واجتماعيا وقيميا. وهو ما أنتج نوعا من الهشاشة البنيوية التي لغّمت المرحلة التأسيسية وحوّلتها إلى مرحلة تكريس لهيمنة المنظومة القديمة -عبر بوابة البورقيبية والتنوير ومقاومة الإرهاب وحماية "النمط المجتمعي"- وذلك لإعادة التموقع والانتشار، وتجاوز حالة الارتباك المؤقت بعد هروب المخلوع تمهيدا للعودة إلى مركز السلطة بعد انتخابات 2014.
إن اعتبار البورقيبية والأساطير المؤسسة للدولة-الأمة "خطابا كبيرا" ومرجعا للمعنى العام "الصحيح" والمقبول من مختلف الفاعلين الاجتماعيين -أي مرجعا أعلى وغير قابل للنقد فيما يخصّ الصوابية السياسية لأي خطاب- جعل أي التقاء على قاعدة "الكتلة التاريخية"، سواء بمعناها الأصلي أو بتَونسة هذا المفهوم ليتلاءم مع السياق التونسي ورهاناته، أمرا غير وارد في المرحلة التأسيسية. فالكتلة التاريخية تفترض تحرك المؤمنين بها والمنتمين إليها ضد عدو واحد يمثل خطرا "وجوديا" على الجميع، ولكنّ العدو "الوجودي" لم يكن واحدا من أصحاب السرديات الكبرى يمينا ويسارا.

فالنهضة التي اختارت استراتيجيا أن تتصالح مع الدولة وأن تخرج من مربّع مواجهتها، لم يكن عدوها الوجودي هو وريث التجمع غير المؤدلج (ولو كان فاسدا أو مشبوها)، بل كان ذلك العدو هو اليسار الوظيفي الذي سامها العذاب ألوانا باعتباره نواة الجهاز القمعي (الأيديولوجي والأمني) في عهد المخلوع، وباعتباره أيضا منافسها الأيديولوجي في خدمة النواة الصلبة لمنظومة الحكم.

أما اليسار فإنه قد استصحب مقولة التناقض الرئيس (ضد الرجعية الدينية) والتناقض الثانوي (ضد الرجعية البرجوازية)، وهو ما مهّد لتحوله إلى حليف موضوعي لورثة المنظومة القديمة، أي محافظة أغلب مكوناته على طابعها الوظيفي في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي وشرعنة سرديتها التأسيسية. ولذلك كان العدو "الوجودي" للقوى اليسارية (بماركسييها وقومييها) هو "الخوانجي" (أي الإخواني)، وليس المنظومة القديمة ولا ورثتها.

كان "تصحيح المسار" مشروعا سياسيا يتحرك بمنطق التناقض والتعارض المطلق مع فلسفة الانتقال الديمقراطي، بل كان نجاحه في إنهاء تلك المرحلة دليلا على هشاشتها وعطبها الذاتية. وإذا كان غياب "الكتلة التاريخية" أمرا مفهوما قبل 25 تموز/ يوليو 2021، فإن غيابه في خطاب "تصحيح المسار" أمر يدعو إلى التساؤل

أمام هذا المشهد المؤدلج وغير القابل للتوحد لأسباب تاريخية وبراغماتية، استطاعت منظومة الاستعمار الداخلي أن تهيمن على الجميع وأن تُهندس الانتقال الديمقراطي بطريقة لا تهدد مصالحها المادية وما يؤسسها/يُشرعنها أيديولوجيا، وهو ما حوّل الجمهورية الجديدة إلى لحظة من لحظات الجمهورية القديمة بمرحلتيها الدستورية والتجمعية. وآية ذلك أن السقف الأعلى للالتقاء بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين في مرحلة الانتقال الديمقراطي كان هو "التوافق" باعتباره بديلا من استراتيجيات النفي المتبادل والاستئصال والتكفير، ولكنّ ذلك التوافق لم يكن يتم من منظور استحقاقات الثورة ولا كان معبّرا عن الوزن الشعبي لطرفيه، بل كان جزءا من استراتيجية "الابتزاز" أو "الترهيب" التي مارستها المنظومة القديمة وحلفاؤها ضد حركة النهضة من جهة، واستراتيجية "التحفيز الوظيفي" أو "التلاعب الأيديولوجي" الموجهة لاستمالة القوى اليسارية من جهة ثانية.

نظريا، كان "تصحيح المسار" مشروعا سياسيا يتحرك بمنطق التناقض والتعارض المطلق مع فلسفة الانتقال الديمقراطي، بل كان نجاحه في إنهاء تلك المرحلة دليلا على هشاشتها وعطبها الذاتية. وإذا كان غياب "الكتلة التاريخية" أمرا مفهوما قبل 25 تموز/ يوليو 2021، فإن غيابه في خطاب "تصحيح المسار" أمر يدعو إلى التساؤل. فالديمقراطية المباشرة -باعتبارها مقولة يسارية تبشّر بنهاية الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة- لا تتعارض ماهويا مع مقولة "الكتلة التاريخية"، بل هي محوجة إليها لبناء "الوحدة الوطنية" و"مشروع التحرير" وتحقيق "مقوّمات السيادة" على أسس مختلفة عن تلك التي روجت لها نُخب الديمقراطية التمثيلية.

ونحن نميل إلى تفسير غياب "الكتلة التاريخية" في الجملة السياسية لـ"تصحيح المسار" بأن مركز الخطاب هو "الزعيم" وليس "الشعب"، كما نميل إلى تفسير ذلك بأن "التأسيس الجديد" -بمنطقه القائم على اعتبار نفسه بديلا لا شريكا- يرفض الاعتراف بالانقسام الاجتماعي؛ خشية أن يكون ذلك مدخلا للاعتراف بشرعية من يُمثل ذلك الانقسام من أجسام وسيطة. ولهذا فإننا إذا ما نظرنا إلى الواقع وأعرضنا عن المزايدات الخطابية، سنقف على حقيقة مفادها أن "تصحيح المسار" لا يطرح مشروعا للهيمنة مضادة في مواجهة هيمنة منظومة الاستعمار الداخلي، بل هو يبحث واقعيا عن "توافق" مع تلك المنظومة في إطار "التعامد الوظيفي" (أي الاعتماد المتبادل).

أكدت مواقف أغلب النخب التونسية من الإرادة الشعبية أن الحاجة إلى الديمقراطية ليست حاجة من حاجياتها الأساسية، كما أكد فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا -ومن بعده نجاح تصحيح المسار في نسف كل المنجز المؤسساتي للتوافقات "الانتهازية"- أن فلسفة التأسيس كانت فلسفة هشة

إننا أمام خيار سلطوي يعطي شرعية جديدة لمنظومة الاستعمار الداخلي، لكنه يلزمها بعدم معارضة مشروعه لإنهاء الحاجة إلى الوكلاء التقليديين (الأجسام الوسيطة)، كما يطالبها بالاعتراف بـ"تصحيح المسار" شريكا أوحد أو حصريا لها. ولا شك في أن هذا الوضع مشروط بموازين القوة بين طرفيه، كما لا شك في أنه وضع مؤقت لن يكون مستقرّه إلا انتفاء الحاجة إلى "تصحيح المسار" أو تخلص الرئيس -في حال فوزه بعهدة رئاسية ثانية- من هيمنة منظومة الاستعمار الداخلي، وتنزيل مشروعه السياسي دون تسويات أو ترضيات للدولة العميقة (خاصة في مستوى إنتاج الثروة وما يُنظّمها من تشريعات تؤبّد هيمنة بعض الكارتيلات العائلية على الاقتصاد الوطني).

منذ المرحلة التأسيسية، أكدت مواقف أغلب النخب التونسية من الإرادة الشعبية أن الحاجة إلى الديمقراطية ليست حاجة من حاجياتها الأساسية، كما أكد فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا -ومن بعده نجاح تصحيح المسار في نسف كل المنجز المؤسساتي للتوافقات "الانتهازية"- أن فلسفة التأسيس كانت فلسفة هشة.

ويبدو أن أغلب النخب ما زالت تستصحب تلك الهشاشة في استراتيجيات المعارضة واستراتيجيات السلطة على حد سواء. فالمعارضة -بما فيها تلك المعارضة الجذرية- ما زالت بعيدة عن القيام بأية مراجعات عميقة أو نقد ذاتي لخياراتها منذ المرحلة التأسيسية، وهو ما يحول دون استرجاع ثقة عموم المواطنين. أما "تصحيح المسار" فإنه يتجه إلى التحول إلى مجرد غطاء سياسي جديد للمنظومة القديمة رغم كل وعوده بالتغيير. وهو واقع يؤكد عدم انتفاء الحاجة إلى "الكتلة التاريخية" وما تعنيه من تجاوز جدلي للديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة على حد سواء.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)