جاءت واقعة شاشة
شارع فيصل في محافظة الجيزة
المصرية، لتُظهر
نموذجا جديدا من أشكال السخط المصري، لكنه كان مبدعا ومختلفا عن مشاهد الاحتجاج
الأخرى التي أوصلت نفس رسالة التظاهرات بصورة أخرى، وإذا كان سبق الحديث عمن
أسميناه من قبل بطل
الشاشات، بسبب اهتمامه بالصورة التي يريد التقاطها في أي حدث
محلي أو دولي، فقد أصبحنا أمام معركة جديدة يخوضها
السيسي على الشاشات أيضا، لكن
شاشته لا تشبه شاشة شارع فيصل.
فور تداول المقطع، استدعت جهاتُ الأمن الإعلاميين
ومسؤولي اللجان الإلكترونية للتعامل الأوَّلي مع الموقف، ليُطِلَّ الإعلاميون من وراء
شاشات الكمبيوتر مهللين ومسبحين بحمد النظام، ومهاجمين جماعة
الإخوان المسلمين،
محمِّلينها مسؤولية ما حدث.
في الوقت ذاته، انطلقت حملة بوليسية في شارع فيصل، وبدلا
من "جذب قابس الشاشة فقط"، قررت قوات الأمن جذب قابس الكهرباء عن شارع
فيصل الحيوي والتجاري! ما يشير إلى عمق وخطورة ما حدث على رسالة القمع الأمنية
المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، فما حدث ليس مجرد احتجاج محدود بل رسالة وصلت إلى
آلاف المارِّين وقت عرض الصور الكاشفة للسيسي، ثم وصولها إلى ملايين الساخطين عليه
والمعارضين لحكمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لكن ما الإشكال فيما حدث؟
ما حدث ليس مجرد احتجاج محدود بل رسالة وصلت إلى آلاف المارِّين وقت عرض الصور الكاشفة للسيسي، ثم وصولها إلى ملايين الساخطين عليه والمعارضين لحكمه عبر وسائل التواصل الاجتماعي
في فترة العمل الطلابي قبل ثورة يناير/ كانون الثاني
2011، كنا نتظاهر داخل الحرم الجامعي، ومع ارتفاع سقف الخطاب السياسي من جهة،
وشراسة القمع الأمني تجاه الطلاب من جهة أخرى، بدأت التظاهرات تأخذ طابعا جديدا،
إذ تبدأ التظاهرة أمام الجامعة على رصيفها المقابل للشارع العام لمدة من الوقت،
وبعدها ننتقل إلى داخل الجامعة، أو نحيل التظاهرة بأكملها على الرصيف الجامعي،
وكان ذلك دون تعطيل لحركة المرور، إذ كنا نستخدم الرصيف فقط، فكانت مطالب الأمن
وقتها، ألا نقف أمام الجامعة وأن نتظاهر بحرية داخلها، أو تقليل مدة الوقوف في الشارع.
كان السبب في هذا الرفض المستمر والمتكرر، أن التظاهرة
في الشوارع تخرج من نطاق المشاهدة على الشاشات، أو حدود الطلاب، ويراها آلاف
المارين من أمام الجامعة، وتُسهم المشاهَدَة المباشرة والمعايَنة للحدث في كسر
حالة الخوف بالتدريج، وكنا في المقابل نريد هذا التأثير والضغط لتقليل القمع،
فكانت العادة إبقاء التظاهرات في الشوارع قبل دخول الحرم الجامعي. ومن هنا تَشَابَه
تأثير شاشة فيصل مع التظاهرات من جهة كسر الحواجز الأمنية، فضلا عن تميُّز فعل
الشاشة بالابتكار غير المسبوق؛ ما يفتح الباب أمام استخدام عشرات الآلاف من
الشاشات في شوارع مصر بالطريقة نفسها، وهو أمر أقل تكلفة بصورة عظيمة من تكلفة
التظاهرات بالنظر إلى القمع الأمني، ومَنْ سَنَّ هذه السُّنة فإليه يُنسب فضلها
وفضل من عَمِل بها.
لاستعادة الهيبة الأمنية، قرر أمن السيسي، وربما هو
بنفسه، شن حملة اعتقالات عشوائية عنيفة، خاصة أن نغمة بدأت تسري بين أهل فيصل، على
سبيل التندُّر، بأنهم الأكثر جرأة في رحاب المحروسة، فبدأ التنكيل بالمنطقة؛ قُطعت
الكهرباء عن المنطقة أولا، بحسب صور متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، بالتزامن
مع حملة أمنية مسعورة، واعتقالات عشوائية وإغلاق الشارع، وفَضِّ التجمع أمام
الشاشة، خوفا من انطلاق تظاهرة تستكمل المشهد المثير لاستفزاز الأجهزة الأمنية
ورأس النظام.
كانت التصرفات المذعورة والشرسة متوقعة من النظام، لكن
لم يخطر بالبال استخدام حدث سياسي كهذا في تصعيد خطابات الكراهية ضد اللاجئين
السودانيين في مصر، ومعلوم أن منطقة فيصل إحدى مناطق تجمعهم، لكن انحطاط اللجان
الإلكترونية للنظام يتماهى مع كل نقيصة، فأشاعت أن سودانييْن اخترقا الشاشة، ورغم
نفي الداخلية تورط السودانيين عموما، إلا أن حملة الكراهية استمرت، من حسابات لا
تفعل سوى التمجيد في السيسي ونظامه، وترى هؤلاء المسوخ يدورون على الصفحات الخاصة
باللاجئين أو المنظمات الداعمة لهم، يبثون خطاب الكراهية ضدهم، ويطالبونهم بترك
مصر، كأن مصر والسودان لم يكونا أمة واحدة ودولة واحدة، ولا يزال يربطهما مصير
واحد، وماء يرتوي منه الجميع، يَرِد على أهل النقاء والصفاء في السودان أولا، ثم
نرتوي منه بعدهم.
تركت الدولة للكيانات غير الرسمية بث خطاب الكراهية ضد
مجتمع اللاجئين، ووجهت الخطاب الرسمي تجاه جماعة الإخوان المسلمين، وبعدما كان
الإعلام يتحدث عن عدم وجود جماعة الإخوان في مصر، ونجاح السيسي وأجهزته في القضاء
عليها، أشاعوا خطابا مغايِرا عن وجود أعضائها، وتَخَفِّيهم بين قطاعات المجتمع، ثم
أدار السيسي معركة جديدة على الشاشات أيضا للذم في الإخوان، مستفيدا من الفكرة
العبقرية التي وصفتْه، فوجَّه شاشات الإعلانات بالشوارع للهجوم على الإخوان، إذ
بات معلوما أن الشارع لا يشاهد مهرِّجيه في برامجهم، فقرر فرض رؤيته على المنتظرين
في زحام القاهرة، والمارين في الشوارع، ليخبرهم بأن الإخوان تسببوا من قبل في سوء
الوضع الاقتصادي، وأزمات الكهرباء، والمفارقة أن نظامه أمام الأزمة نفسها، مع فارق
كبير بين مَن تورَّط في الأزمة بسبب أجهزة الدولة المعارضة له، ومَن وصل إلى
الأزمة بسبب سوء إدارته وفشله.
اللافت أيضا في تلك الحملة على الإخوان، أن السيسي يصر
على إحياء الإخوان في وجدان المجتمع، وهذه الحماقة مثيرة للانتباه، فهو يعتقد أن
إحياء كراهية الإخوان في قلوب الشارع مهم، لأن المجتمع ينسى بعد فترة وجيزة
الوقائع، فضلا عن حضور أجيال جديدة لم تشهد حكم الإخوان ولا فترة تواجدهم السياسي.
أدار السيسي معركة جديدة على الشاشات أيضا للذم في الإخوان، مستفيدا من الفكرة العبقرية التي وصفتْه، فوجَّه شاشات الإعلانات بالشوارع للهجوم على الإخوان، إذ بات معلوما أن الشارع لا يشاهد مهرِّجيه في برامجهم، فقرر فرض رؤيته على المنتظرين في زحام القاهرة، والمارين في الشوارع، ليخبرهم بأن الإخوان تسببوا من قبل في سوء الوضع الاقتصادي، وأزمات الكهرباء
وإعادة التذكير بخطايا فصيل أمر صحيح نظريا لضمان استمرار إبعادهم، لكن الواقع
العملي يخالف ما يريده السيسي، فمن أراد ذم انقطاع الكهرباء عليه أن يوفرها، ومن
أراد ذم سوء الأوضاع الاقتصادية عليه أن يحسِّنَها، ومن أراد ذم مناخ الحريات عليه
أن يسمح بالتعددية.
إذا لم تفعل شيئا من هذا وأردتَ ذم السلوك نفسه، فإنك
ستحيي خصمك لا محالة، بل ستجعل الأجيال الجديدة التي لم تر سوى إخفاقاتك تعتقد
وتؤمن أنهم مظلومون، وتكرار اسمهم سيجعل الكثير منهم يُقبل عليهم إذا أتيحت الفرصة
لهم. وفي حين أن الجماعة انقسمت وربما تسبب هذا الانقسام في إضعاف فرصها، فإن
السيسي أحياها وهو يريد قتلها، والكارثة أنه لا يستطيع ألا يتحدث عنهم باستمرار وتحميلهم
مسؤولية إخفاقه وسوء إدارته، ولا يستطيع أيضا أن يسكت عنهم لأنه يعتقد أن السكوت
عنهم يعني رفع أسهمهم.
إذا، دخل السيسي شكلا جديدا من معارك الشاشات، بمعدات
أكبر وقدرات لا محدودة، لكن ربما يشبه الأمر طوفان الأقصى، إذ فارق الإمكانيات ضخم
للغاية، لكن الصفعة التي توجهها المقاومة للصهاينة تكون أشد إيلاما من صاروخ يزن
ألفي رطل، وتظل عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر المسمار الأهم على الإطلاق في
نعش دولة الاحتلال، وهكذا وضْع شاشة فيصل بمحدودية الإمكانيات، ورداءة التصميم،
لكنها فتحت الباب أمام شكل جديد وغاية في الإبداع من النضال السياسي، وستكون
مسمارا من أهم مسامير نعش الحكم الأسوأ والأحط في تاريخ مصر الحديث، ومرة أخرى، لن
تكون شاشته كشاشة شارع فيصل.