أثناء إجراءات الإفراج عنه
بعد قضاء مدة "التأبيدة" في السجن، ذهب دستايفسكي إلى ورشة الحدادة لنزع
"الكلابشات"، وأكاد اسمع صوت دستايفسكي وهو يحكي المشهد كما سجله في
كتابه المؤثر"
ذكريات من البيت المقفر".. يقول الأديب الذي نجا من
الإعدام ولم ينج من السجن: اقتربت من السندان، أدار الحدادون ظهري، ثم أمسكوا بساقي
ومددوها فوق السندان، كانت هناك جلبة وحركة زائدة زادت من توتري، لكنني عرفت من
النقاش الدائر أنهم يريدون أن ينجزوا المهمة بخفة ومهارة من غير أن يتسببوا في
إيذاء قدمي، قال كبير الحدادين شاخطا في زميله (كلهم من السجناء يعملون في هذا
المكان): المسمار.. أدر المسمار أولا، ضعه في المنتصف، هذا هو الوضع الصحيح، الآن
انزل عليه بالمطرقة.. سمعت صوت الضربة في قلبي قبل أذني، ورأيت الأغلال وهي تسقط
على الأرض، كنت أريد أن أمسكها بيدي وأتأملها، فقد أذهلني أنها منذ لحظة كانت تقيد
ساقي! قال لي السجناء الحدادون بأصواتهم الخشنة: هيا، في أمان الله، لماذا تقف؟
اذهب وانعم بالحرية.
كانت أصواتهم غليظة لكن تبدو
الفرحة في كلماتهم الصادقة، فنظرت خلفي إلى مباني السجن وأنا أقول لنفسي: كم من
شباب ومهارات وقوى حية دُفنوا عبثا داخل هذه الجدران بلا فائدة لأي إنسان، طاقات
جبارة ومواهب نافعة وأرواح متحمسة انطفأت وضاعت داخل السجن.
من المذنب في ذلك؟
من المذنب حقا؟
* * *
ذلك هو السؤال الذي كنا نردده
علنا أحيانا، وفي الضمير معظم الوقت، كلما سمعنا حكاية زميل، وتأثرنا بالأحوال
العبثية التي أتت بآلاف السجناء الأبرياء إلى هذا المكان، وكان هشام الحسيني هو
الشخصية الناقصة في ذكريات دستايفسكي عن السجن، لهذا أضيفها إلى الكتاب لنفي
الأسلوب وتجربة المعايشة:
ذلك هو السؤال الذي كنا نردده علنا أحيانا، وفي الضمير معظم الوقت، كلما سمعنا حكاية زميل، وتأثرنا بالأحوال العبثية التي أتت بآلاف السجناء الأبرياء إلى هذا المكان
تعجبت عندما أخبرني هشام أن
قوة الأمن ضبطت في منزله سلاحا وتمت مصادرته مع بقية الأحراز التي أخذوها من سكنه،
تعجبت لأن هشام يبدو وديعا منخفض الصوت بطيء الحركة، من النوع الذي يغسل أسنانه في
ربع ساعة على الأقل، ويجفف وجهه بالفوطة بتأن كأنه جواهرجي يلمع قطعة من الماس،
لذلك أصبحت تصرفاته مادة للتندر، ولم يكن يغضب من تعليقات الآخرين على أسلوبه الهادئ،
ويكتفي بمشاركة المعيشة والنقاش مع من يتعاملون معه باحترام، ويتجنب الآخرين دون
مقاطعة أو خصام.
فقد كان هناك من يغضب ويفتعل
المشاكل بسبب استعارة الكتاب من المكتبة، حيث يذهب سجينان معا ويتفقان على عناوين
الكتب ويسجلان الاستعارة بالحد الأقصى المسموح، ثم يتم تبادل قراءة الكتب داخل
العنبر، بحيث يتمكن كل سجين يحب القراءة من مطالعة ضعف الكمية المسموحة، لكن طريقة
هشام في القراءة كانت أشبه بالدراسة البحثية، قلم وكراسة وتسجيل ملاحظات وتعليقات
للنقاش، فكان يستغرق وقتا أطول يدفع الشركاء الآخرين للاحتجاج والتشهير، وتنتهي
المشكلة بأن يقوم هشام بهدوئه المعتاد بتسليم الكتاب للسجين الغاضب قبل أن يكمل
قراءته، ويتجنب مشاركته الاستعارة في المرات التالية..
وبسبب هذا الأسلوب صنع هشام
عالما خاصا به داخل العنبر، ومن المفيد أن أرسم ملامح هذا العالم قبل أن أكتب عن
قضية هشام..
العنبر عبارة عن مستطيل عرضه
أربعة أمتار ونصف وطوله 16 مترا تقريبا، مع حساب المساحة التي تشغلها دورة المياه
في نهاية العنبر، وكان الباب الحديدي للعنبر يتوسط المساحة ويقسم العنبر إلى
قسمين، كان هشام يقيم في سرير بالطابق الثالث في نهاية العنبر من الجهة البعيدة عن
دورات المياه، على يمين الداخل من باب العنبر، وهي جهة معزولة لأن حركة السجناء
تكون عادة باتجاه دورة المياه ، أو نحو الباب، للنظر من "النضارة" التي
أطلق عليها الدكتور شريف حتاتة اثناء سجنه اسم "العين ذات الجفن
المعدني"، لأنها فتحة صغيرة في الباب لها غطاء منزلق يشبه جفن العين، ولا
تكاد النضارة تخلو من شخص واقف يتطلع منها إلى الخارج في النهار أو الليل، للحديث
بالصوت العالي مع سجناء في عنابر أخرى، أو لإلقاء قصائد عامية تسمى بلغة السجناء "العنبرة"،
أو لإبلاغ الحراس بأي مشاكل أو طلبات عاجلة.
المقصود أن هشام اختار مكانا
منعزلا، ليست هناك ضرورة للحركة في اتجاهه، إلا لمن يقصده مباشرة، وهذا الموقع وفر
له حالة من الخصوصية، تم تدعيمها بجيران من السجناء الذين عرفوا طبعه واحترموه. وأحاط
سريره بستائر من ثلاث جهات صنعها من ملاءات السرير، ولما كان سريري في منتصف
العنبر أمام الباب مباشرة، لم أدخل إلى عالم هشام إلا بعد أن تكونت الصداقة حول
رقعة الشطرنج في الردهة المواجهة للباب.
وبعد أن سألت هشام عن تهمته
وذكر لي موضوع ضبط السلاح في بيته، لم يكن من اللياقة أن أطلب منه أن يحكي أمام
جمهور المتفرجين على لعبة الشطرنج، لذلك انتظرت حتى أصبحنا وحدنا، وقلت له: لو
ماعندكش مانع عاوز أعرف تفاصيل قضيتك، وبخاصة مضبوطات السلاح.
قال هشام: تقبرني معلمي.. بستضيفك
عندي في "العلية" (قالها باللهجة الشامية وهو يبتسم).
صعدت على صومعة هشام، كل شيء
مرتب، مع لمسات تدل على النظافة والثقافة: الصابون، غرغرة الفم، معجون الأسنان،
أعواد تنظيف الأذن، الأوراق والأقلام والكتب، وأكياس معلقة بالجدار يستخدمها
كدولاب للملابس والبسكوتات والشيكولاتة والعصائر، وهي بالإضافة للغذاء ولذة
الاستمتاع بالطعام؛ لوازم ضرورية لضبط السكر كمقابل للأدوية.
لم يبدأ هشام الحكاية فورا،
ولم أتعجله احتراما لطريقته، وبعد الضيافة الكريمة بدأ يحكي:
لما تدهورت أحوالي الصحية
بسبب مرض السكر، أشار عليّ الطبيب بضرورة الرياضة وإنقاص الوزن، وكان خيارا صعبا
بسبب عملي المكتبي ومواعيد العمل الطويلة التي تلتهم اليوم كله، وتوصلنا أخيرا إلى
عدم استخدام السيارة، والذهاب والعودة بالمواصلات، لأن ذلك سيضطرني إلى الحركة.
وبالفعل ركنت السيارة بجوار سور مدرسة قريبة من بيتي، وحسب نصيحة خبراء السيارات،
كنت أمر على السيارة كل أسبوع، أتفقد حالها، وأشغل الموتور دون أن أتحرك، وأحيانا أتحرك
بها قليلا، ثم أعيدها إلى مكانها وأمضي..
ويبدو أن العمل استغرقني
فأهملت المرور على السيارة قرابة الشهر، وعندما رحت أتفقد الحال، اكتشفت سرقة
لوحات الأرقام، ولما أخبرت أخي، أكد على ضرورة تسجيل ذلك في محضر شرطة، لإخلاء
مسؤوليتي عن أي حادث أو مشكلة يتم فيها استخدام اللوحات المسروقة. في اليوم التالي
مباشرة ذهبت إلى قسم الشرطة وحررت محضرا، واستلمت صورة منها وخرجت من القسم في
طريقي لمكتبي، وأمام باب القسم استوقفني أحد الأشخاص وسألني: كنت جوه بتعمل إيه؟
قلت له خير.. في حاجة؟
قال: أنا شرطة وده من
مسؤوليات عملي..
قلت: كنت بعمل محضر سرقة
لوحات سيارة.
قال: معاك موبايل؟
- أيوه معايا
* طيب وريني الموبايل
- لأ.. تشوف موبايلي بصفتك
إيه؟
* طيب فين
المحضر اللي عملته؟
رفعت يدي التي تحمل المحضر،
فإذا بيه يخطف المحضر ويدخل إلى القسم، دخلت خلفه وأنا أتعجب من التصرفات غير
المنطقية لذلك الشخص الذي ادعى أنه "شرطي"، يعني رجل قانون والطبيعي أن
يتصرف بشكل قانوني، خاصة ونحن أمام مؤسسة قانونية هي قسم الشرطة. رأيت الرجل يدخل
إلى أحد المكاتب فطرقت الباب ودخلت، وجدت ضابطا على مكتبه يتحدث مع الشرطي، طلب
مني الجلوس، وسمع الحكاية التي حكيتها للشرطي عن المحضر وسبب الزيارة، وطلب رؤية الموبايل،
وبعد جدال وتصعيد، أعطيت الموبايل للضابط، وطلب كلمات السر للجهاز وحسابات مواقع
التواصل، ودخلنا في دوامة لم تخطر على بالي أبدا، وبعد بحث وفحص وتعليقات سخيفة عن
الثورة والثوار، وانت بقى ثوري وبتشتم الدولة وبتستخدم فيسبوك لهدم الدولة ودعم
الإرهاب.. انتهت المهزلة بالقبض على من مكتب الأمن الوطني الملحق بالقسم، وتم
اصطحابي إلى عنوان سكني في حراسة قوة مسلحة عبارة عن "حملة" في عدة
سيارات شرطة وسيارات مدنية (ميكروباصات بيضاء مدني)..
أنا أسكن في بيت عائلة من
ثلاثة طوابق: أمي في الدور الأرضي، وأخي في الثاني، وأنا في الطابق الثالث
والأخير، حالة من الفزع والذهول أصابت الشارع الذي نسكن فيه، وتم تخريب المسكن
وتدمير محتوياته بدون داع أثناء البحث، كل المشكلة أن حد الجنود أشار إلى ركن في
المسكن وقال للضابط بصيحة الاكتشاف: بندقية.. بندقية يا باشا.. المتهم عنده أسلحة.
تحول التفتيش إلى حالة من
العنف المجنون، والتدمير الهيستيري لمحتويات البيت، تم شق مراتب الأسرة بسونكي
البنادق وتحطيم الدواليب في غرفتي وغرفة الأطفال، وبعثرة محتويات المطبخ وثلاجة
الطعام وكل شيء..
عبثا حاولت أن أشرح للضابط
بهدوء أنني من هواة الصيد، وطراز البندقية كذا، من النوع الذي لا يحتاج إلى ترخيص
حسب القانون، وذكرت له مادة القانون..
لكن الضابط كان يتعامل أنه
قبض على مجرم خطير، وبدأ يجمع كل أجهزة الكمبيوتر والموبايلات والفلاش ميموري
والهارد ديسكس والكتب، وبينما يفتش المكتبة عثر على رسومات مطبوعة لتصميم أسلحة،
فزاد الهياج والعنف، وظل يردد بسخرية: ما شاء الله كمان بتعمل تصميمات سلاح.. فين
ورشة التصنيع للحاجات دي؟ ومين معاك؟
ضاع صوتي ومنطقي الهادئ في
دوامة العنف، وكدت أضحك من فداحة غباء الضابط وأنا أشرح له الكلمات المكتوبة
بالإنجليزية على تصميم السلاح: هذه لعبة أطفال طبعتها من الإنترنت لصناعة مسدس من
خشب الأركيت لطفل من 9-12 سنة، والموضوع واضح ولا يحتاج إلى كل هذا الجنون الأعمى.
والعجيب بعد أن صادروا حمولة ضخمة من البيت، أخذوني إلى مقر احتجاز مقبض في أمن
الدولة، وعلى مدى أكثر من ثلاثة أسابيع لم يسمع أحد كلمة واحدة من تفسيراتي
القانونية، ولم يتم التعامل معي بأي نوع من الجدية كمتهم، حالة من العبث أوحت لهم
أنهم عثروا على قائد تنظيم إرهابي، بينما الحقيقة هواية صيد الطيور، ولعبة خشب لابني
"بوده".
وعندما تم إحالتي إلى النيابة
بعد فترة عبثية في الأمن الوطني، لم يفعل وكيل النيابة أكثر مما فعل ضباط الأمن
الوطني، الجديد أنه قرأ محضر الأحراز، وركز على البندقية والخرطوش المضبوط، وتصميم
المسدس المرفق، وعندما شرحت له، لم يرغب في الاستماع لشيء وأمر بحبسي احتياطيا على
ذمة قضية إرهاب ونشر أخبار كاذبة والتعاون مع كيانات ارهابية محظورة لزعزعة
استقرار الدولة.
والمضحك أنني تحدثت مع وكيل
النيابة لتبرير وجود مسدس في الأحراز، فقلت له، وبالنسبة للمسدس.. ده طبنجة صوت.
قال مستغربا: مسدس إيه اللي
بتتكلم عنه.. مفيش مسدس في محضر الأحراز، ياللا ياللا خدوه على السجن.
ضحكت من شر البلية، رأيت
بعيني واحد من أفراد القوة يأخذ المسدس من درج المكتب، وكنت قد اشتريته أثناء ثورة
يناير، بعد انسحاب الشرطة من الشوارع، وانتشار الفوضى وقطع الطريق والسرقات
الليلية، وكنت أعود من عملي في منطقة المقطم ليلا، ما يفرض علي قطع القاهرة من
شرقها إلى غربها، لكن يبدو أن الشرطي الشريف طمع في المسدس، فأخذه لنفسه ولم يسجله
في المضبوطات، وقد حمدت الله على هذا الفساد الوسطي الجميل، لأن هذا السلاح برغم
أنه "مسدس صوت" إلا أنه يحتاج إلى ترخيص، وهذا من الأمور الغريبة في
تراخيص السلاح في
مصر، ربما لأنه تقليد متقن وقد يكون له بعض الأضرار إذا تم
تصويبه عن قرب باتجاه شخص ما، وهو احتمال لم أتأكد منه، لأنني اقتنيت السلاح
للحماية الشكلية والنفسية وعدم الاستخدام.
صمت هشام لحظة، فنظرت إلى
عينيه، لم يكن هناك تعبير واضح، عبث؟!.. حزن؟!.. ذهول وعدم تصديق؟!.. أسئلة مفتوحة
عما حدث لأنه وزوجته وأولاده بعد اقتياده مقيدا في سيارة الشرطة؟!.. مصير ذكرياته
وملفات عمله وأفلامه المفضلة وكتاباته التي يحتفظ بها في أجهزة الكمبيوتر التي تمت
مصادرتها؟!
كل هذا أعاد إلى رأسي في نفس
اللحظة، سؤال دستايفسكي الذي بدأت به المقال:
من المذنب في ذلك؟
من المذنب حقا؟
وفي المقال المقبل نواصل
حكايات السجن..
[email protected]
ليل العنابر.. يوميات معتقل (5)
نحيب في قلب الليل.. يوميات معتقل (7)