قضايا وآراء

عام على الطوفان.. حرب الوجود ومعارك الحدود

حمزة زوبع
"عملية طوفان الأقصى قد دشنت مرحلة جديدة من الصراع"
"عملية طوفان الأقصى قد دشنت مرحلة جديدة من الصراع"
- "الحرب في غزة وجودية إما نحن أو وحوش حماس" (بنيامين نتنياهو- 13 أيار/ مايو 2024)

- "إسرائيل بحاجة إلى الأسلحة الأمريكية في حرب تخوضها من أجل وجودها" (بنيامين نتنياهو- 24 حزيران/ يونيو 2024)


عام مضى منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى وما تلاها من غزو همجي لعصابات الصهاينة في فلسطين المحتلة، وبالرغم من كل ما جرى من دمار وتخريب وقتل على الهوية راح ضحيته قرابة خمسين ألف نفس بشرية، من بينها أطفال ونساء وشيوخ، إلا أن التاريخ سيذكر صمود المقاومة الفلسطينية على مدار عام رغم الحصار الذي يمارسه الصديق قبل العدو، ورغم التكفير الذي يمارسه بعض من المحسوبين على السلفية وهي منهم براء، ورغم الخذلان الذي يمارسه قطعان المحبطين والمثبطين في وسائل الإعلام العربية، ورغم حروب البروباجندا التي تمارسها وسائل الإعلام الصهيونية عبر العالم، رغم كل شيء لا تزال المقاومة في الساحات تمارس دورها المرسوم، وهو حرب استنزاف قد تطول ولكنها بكل تأكيد ستدفع العدو إلى الخروج من الأراضي المحتلة مخذولا محسورا يوما ما.

عام على الطوفان، وليس الصمود الأسطوري للمقاومة وحده هو ما يثير الإعجاب والتأمل، بل إن تحولا كبيرا يستحق الالتفات إليه والاعتناء به وتفسيره على نحو صحيح لأنه ربما لم يأخذ حقه على مدار عام، وأعتقد أنه تحول استراتيجي سيغير المنطقة كلها سواء من زاوية السياسة وما يتعلق بها أو من ناحية الجغرافيا ومن ثم التاريخ الذي سيسجل ما يجري بطريقة تدعو الأجيال المقبلة للفخر والاعتزاز.

إن تحولا كبيرا يستحق الالتفات إليه والاعتناء به وتفسيره على نحو صحيح لأنه ربما لم يأخذ حقه على مدار عام، وأعتقد أنه تحول استراتيجي سيغير المنطقة كلها سواء من زاوية السياسة وما يتعلق بها أو من ناحية الجغرافيا ومن ثم التاريخ

في كلمة له بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لعملية طوفان الأقصى، قال رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو: "نحن في حرب ولسنا في عملية عسكرية ولا في جولات قتالية وإنما في حرب وسنرد بحرب شعواء بشدة لم يعهدها العدو"، و"هذه حرب على وجودنا، حرب القيامة هكذا أسميها" وأنه "كان الهجوم الأشد على الشعب اليهودي منذ المحرقة". وهذا الكلام يعني أن عملية طوفان الأقصى قد دشنت مرحلة جديدة من الصراع مع العدو الغاصب، الذي عاش لعقود على فكرة المعارك الخاطفة من أجل اقتطاع جزء صغير من هذه الدولة أو تفريغ مساحات (منزوعة السلاح) على الحدود من تلك الدولة، أو تحييد دول كبيرة من الصراع حتى يتفرد العدو بالشعب الفلسطيني ظنا منه أنه سيقدر عليه، فجاءه الطوفان ليدمر ما كان يفعل وما يعتقد ويدفعه للتفكير من جديد في حقيقة المشروع الصهيوني التوسعي وفي قدرته على البقاء في المنطقة، وتحول الحديث إلى صراع من أجل البقاء وليس معارك من أجل الحدود.

أدرك نتنياهو أن كل المعارك السابقة انتهت إلى لا شيء حتى في ظل توقيع عدد من الدول العربية اتفاقيات تطبيع، وآخرها اتفاقيات أبراهام التي وقعت تحت وطأة السيوف المشهرة في وجه الحكام العرب من قبل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كل هذه الاتفاقيات لم تجد نفعا ما دامت الشعوب العربية ترفض وجود هذا الكيان الغاصب وما دامت هناك حركة إسلامية ترفع لواء المقاومة من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

لقد عمقت عملية طوفان الأقصى من مخاوف الصهاينة ليس على بعض الحدود أو الموارد الطبيعية التي خاضوا من أجل الاستيلاء عليها معارك قتالية وأخرى سياسية بدعم كبير وهائل من أمريكا والغرب، بل مخاوف الزوال والوصول إلى نقطة الفناء. وأعتقد أن تحليلهم العسكري والسياسي لعملية الطوفان قد أكد لهم أن المقاومة لا تسعى من أجل تحريك القضية فحسب، بل من أجل بدء مشروع كبير لتحرير فلسطين، وإلا فما كنا لنشهد كل هذا الرد الإجرامي على العملية التي للأسف يعتقد بعض الصهاينة العرب أنها جاءت على هوى الكيان ورغبته، بل زعم البعض زورا أنها بتنسيق مع العدو.

عمقت عملية طوفان الأقصى من مخاوف الصهاينة ليس على بعض الحدود أو الموارد الطبيعية التي خاضوا من أجل الاستيلاء عليها معارك قتالية وأخرى سياسية بدعم كبير وهائل من أمريكا والغرب، بل مخاوف الزوال والوصول إلى نقطة الفناء

لقد أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى المربع الأول وهو مربع عام 1947 (عام التقسيم)، وتبين لنا جميعا أن حكام العرب الحاليين كأجدادهم لم يتغيروا وأنهم لم ينتفضوا لوقف المشروع الصهيوني؛ الذي تجلت معالمه في حرب 1948 التي تحركت فيها الشعوب وتراجعت أو تآمرت فيها الحكومات وانتهت بالإعلان عن قيام دولة الكيان في 14 أيار/ مايو 1948.

نجح الطوفان في إعادة المخاوف إلى قلب العدو المغتصب، ونجحت المقاومة على مدار عام في تعزيز هذه المخاوف رغم ما يبدو من انتصار عسكري قام فيه العدو بتدمير المدارس والجامعات قبل المساجد والكنائس، كما قام بدك المستشفيات قبل الورش والمصانع وقتل الأطفال والنساء قبل أن تصل يده إلى المقاومة، وهي كلها أهداف تكتيكية لم يستطع العدو ترجمتها إلى مكاسب استراتيجية تعزز وجوده في المنطقة أو تحسن صورته التي أصبحت ملطخة بالدماء في كل مكان حول العالم.

وهنا أستحضر أحدث تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الذي قال: "التحدي الذي تواجهه إسرائيل الآن هو تحويل الانتصار التكتيكي إلى استراتيجية تضمن بها بقاء إسرائيل"، أي أن المخاوف من عدم بقاء دولة الكيان قد امتدت إلى أمريكا الراعي الرئيسي للكيان الغاصب، وأن فكرة الزوال أو عدم الاستقرار والاستمرار لا تزال تسيطر على الذهن الصهيوني بمكوناته في فلسطين وأمريكا.

والسؤال هو: لماذا يشعر الكيان بهذا الشعور بقرب الزوال والفناء رغم أن علاقته السياسية والعسكرية والاقتصادية مع معظم الحكومات العربية تعتبر قوية ومتشعبة، ولطالما افتخر رئيس وزراء الكيان بهذه العلاقات وبأنها ترسم ملامح شرق أوسط جديد؟

للإجابة على هذا السؤال لا بد من التذكير بما قلته في مقال سابق من أن الحرب الحالية ليست حرب جيوش نظامية، وهذا في حد ذاته أحدث فرقا كبيرا، فقد اعتاد الكيان الصهيوني على سحق الجيوش النظامية من خلال اختراقها عبر عملائه؛ الذين كان بعضهم يعتلي سدة الحكم ويحذر الكيان من تحركات دول المواجهة آنذاك (حرب أكتوبر 1973 هي آخر حرب نظامية بين العرب والصهاينة في فلسطين)، وبالتالي كانت حروبه خاطفة وسريعة تقوم على فكرة الصدمة والرعب مما يؤدي إلى انسحاب الجيوش فرارا من قوة الصدمة ومن رعب القتال،
مشكلتي ليست مع نتنياهو وكبار مجرمي الصهاينة من اليهود، بل مع الصهاينة العرب الذين يمنون النفس بهزيمة المقاومة بينما نتنياهو ينتظر لحظة التخلص من كابوس زوال دولة الكيان
بينما الحرب الدائرة اليوم هي حرب غير نظامية، هي حرب المقاومة الشعبية وبالأحرى المقاومة الإسلامية التي تتحرك عن عقيدة ودين وإرادة صلبة وعز ويقين في النصر أو الشهادة في سبيل الله.

ويدرك نتنياهو ورفاقه في الكيان أو في دول الجدار (الجوار سابقا) أن هذه المقاومة هي من نبت هذه الأرض ومن غرس هذا الدين العظيم الذي لا يقبل بالكيان الغاصب، وإن سمح بمعاملة أهل الكتاب معاملة حسنة فهذا لا يعني أن يسمح له باغتصاب الأرض والموارد تحت أي شعار وتحت أي ذريعة، كما يدرك أن التطبيع الراهن هو مجرد وهم في ظل رفض الشعوب له، ويدرك أن الحكومات الحالية هي حكومات مغتصبة للسلطة، وأنه إذا ما أتيح لها (أي الشعوب) فرصة الاختيار فإنها ستنتقي حكاما يقفون مع المقاومة الفلسطينية ويدعمونها، مثلما فعل الرئيس الشهيد محمد مرسي حين قال قولته المدوية: "لن نترك غزة وحدها".

الحرب الدائرة اليوم هي حرب الشعوب التي تبنت واحتضنت المقاومة في عدة دول رغم إرادة الحكومات، في لبنان وفي اليمن وفي العراق، وسوف تنتج هذه المقاومة إن لم يكن اليوم فغدا.

ويدرك نتنياهو الذي يزعم زورا أنه انتصر، أنه مهزوم ومأزوم وأن كل أمنياته اليوم أن يحافظ على دولة الكيان من الزوال والفناء، وأن المقاومة قامت بتقزيم وتحجيم إن لم يكن تحطيم أسطورة "من النيل إلى الفرات".

مشكلتي ليست مع نتنياهو وكبار مجرمي الصهاينة من اليهود، بل مع الصهاينة العرب الذين يمنون النفس بهزيمة المقاومة بينما نتنياهو ينتظر لحظة التخلص من كابوس زوال دولة الكيان.

التعليقات (0)