قضايا وآراء

قراءة مختلفة لنتائج الانتخابات الرئاسية التونسية

عادل بن عبد الله
يقول الكاتب: "العقل السياسي للمعارضة لم يرتفع بعد إلى مستوى رهانات اللحظة"- عربي21
يقول الكاتب: "العقل السياسي للمعارضة لم يرتفع بعد إلى مستوى رهانات اللحظة"- عربي21
أن نطرح على أنفسنا قراءة مختلفة لنتائج الانتخابات الرئاسية، هو أمر لا يعني أفضلية قراءتنا على سائر القراءات الأخرى بقدر ما يعني البحث عن "اللا مفكر" فيه طيّ تلك القراءات؛ لأسباب ليس هذا موضع بسط الحديث فيها. ولذلك لن يكون هذا المقال قراءة للمسار الانتخابي وما أثار من جدل بين النخب السياسية وعموم المواطنين، ولن يكون قراءة في تلقي المترشحَين الخاسرَين للنتيجة، ولا في ردود الفعل المتوقعة أو غير المتوقعة من حملتيهما الانتخابيتين -ومن سائر الفاعلين الاجتماعيين- وتأثير ذلك في الهندسة المتوقعة للمشهد السياسي.

فبحكم فهمنا المخصوص للثورة التونسية بمساراتها ومآلاتها، وكذلك بحكم تخفف القراءة الموضوعية من الرهانات "السياسوية" المباشرة، فإنّ السؤال الأهم الذي سنحاول الإجابة عنه سيكون هو التالي: لماذا وصلت تونس إلى المشهد السياسي الحالي؟ ولو أردنا طرح السؤال بصورة مختلفة لصغناه على هذا الشكل: هل يُمثّل "تصحيح المسار" -بدستوره ونظامه السياسي ورهاناته الحقيقية والمتخيلة- انحرافا حقيقيا عن روح "الانتقال الديمقراطي"، أم هو مجرد امتداد منطقي لرهانات النخب المتحكمة فيه وشهادة على إفلاسها السياسي وعلى انتفاء الحاجة إليها، في مستوى استراتيجيات الدولة العميقة ورعاتها الأجانب وفي مستوى الانتظارات الشعبية على حد سواء؟


إذا ما استثنينا الملف السياسي، فإنه لا شيء في خيارات السلطة يوحي بوجود "تأسيس ثوري جديد" يقطع مع البنية الريعية للاقتصاد ومع "فرنسة" الفضاء العام والإدارة والثقافة، ولا شيء يوحي بوجود رغبة سياسية حقيقية في تجريم "التطبيع" مع الكيان أو تجاوز واقع "التطبيع" مع منظومة الاستعمار الداخلي؛ باعتبار ذلك كله شرط "مشروع التحرير الوطني". كما أنه لا شيء لم تطلع عليه الشمس من قبلُ في مستوى مركزة السلطة (النظام الرئاسوى) أو تدجين المجتمع المدني والإعلام

إنه سؤال نؤمن بأنه يمثّل السؤال التوليدي لسائر الأسئلة المشتقة في أي محاولة لفهم تصحيح المسار بعيدا عن سرديات السلطة والمعارضة الجذرية والموالاة النقدية. ونحن ننطلق في تحليلنا من الفرضية التالية: إن تصحيح المسار هو "جُماع" عشرية الانتقال الديمقراطي -أو "العشرية السوداء"- وليس انقلابا عليها. إنه بمعنى ما "زمن سياسي جديد" لكن ليس بالمعنى السلطوي، بل بمعنى أنه تركيب "شعبوي" -لا جدلي- لكل آفات الانتقال الديمقراطي وأحلامه المجهضة. فهو "احتكار" لكل القيم والشعارات ذات الجاذبية الشعبية مهما كان أصلها الأيديولوجي، ولكنه أيضا "احتكار" لكل خطابات الكراهية والتخوين والاستئصال التي هيمنت على مرحلة الانتقال الديمقراطي، بالإضافة إلى الاحتكار الأهم: احتكار واجهة السلطة بشرعية "التأسيس الثوري الجديد"، مع حصر تلك "الثورية" في الحقل السياسي دون بقية الحقول الاقتصادية والثقافية التي بقيت -على الأقل إلى حد الآن- تحت هيمنة الدولة العميقة بعائلاتها الريعية وشبكاتها الزبونية.

قد يبدو "الجوهر التأليفي" لتصحيح المسار أمرا بعيدا عن الصواب، فالسردية السلطوية تنبني على منطق القطع مع الماضي بشعار "لا رجوع إلى الوراء"، أما السرديات المعارضة فإنها تتهم السلطة بالانقلاب على "الانتقال الديمقراطي" بل على الثورة ذاتها، وهو ما يعارض أطروحتنا "ظاهريا". ولكنّ هذا الاعتراض يسقط حين نشتغل على أداء السلطة وخياراتها الواقعية -لا الخطابية- من جهة أولى، وعلى البنية العميقة لخطابات المعارضة خلال فترة الانتقال الديمقراطي وبعد 25 تموز/ يوليو 2021 من جهة ثانية.

فإذا ما استثنينا الملف السياسي، فإنه لا شيء في خيارات السلطة يوحي بوجود "تأسيس ثوري جديد" يقطع مع البنية الريعية للاقتصاد ومع "فرنسة" الفضاء العام والإدارة والثقافة، ولا شيء يوحي بوجود رغبة سياسية حقيقية في تجريم "التطبيع" مع الكيان أو تجاوز واقع "التطبيع" مع منظومة الاستعمار الداخلي؛ باعتبار ذلك كله شرط "مشروع التحرير الوطني". كما أنه لا شيء لم تطلع عليه الشمس من قبلُ في مستوى مركزة السلطة (النظام الرئاسوى) أو تدجين المجتمع المدني والإعلام.

فالديمقراطية المباشرة أو المجالسية -مثلها في ذلك كمثل "الشركات الأهلية- لم تستطع تغيير آليات اشتغال السلط، كما لم تقدر إلى حد هذه اللحظة على تغيير بنية الاقتصاد الريعي (ولا تنقيح التشريعات التي تقنن هذا الاقتصاد)، رغم الإصرار الخطابي للسردية السلطوية على ربط شرعيتها/ مشروعيتها بالقدرة على تجاوز هذا الواقع، في إطار ما تسميه بـ"مشروع التحرير الوطني".

أما من جهة المعارضة الحالية، فإنها ما زالت تصرّ على عدم الاعتراف بأنها هي الأب الشرعي لتصحيح المسار، وما زالت محكومة بمنطق الإنكار ورفض المراجعات والنقد الذاتي. ولكنّ هذا الإنكار وما يصاحبه من سياسة الهروب إلى الأمام، لا يمنعنا من مقايسة علاقة تصحيح المسار بالانتقال الديمقراطي على علاقة اليسار التونسي بالبورقيبية دون ادعاء التطابق أو انتفاء الفروق بينهما. فإذا كان اليسار هو الابن الشرعي لبورقيبة ومشروع التحديث اللائكي (رغم توتر العلاقة التاريخية بينهما وعدم ثباتها على نهج واحد)، فإن تصحيح المسار كذلك هو الابن الشرعي لاستراتيجيتي الاستئصال الصلب والناعم واستدماج ورثة المنظومة القديمة من لدن "العائلة الديمقراطية"، وهو أيضا الابن الشرعي لاستراتيجية "التطبيع" مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة والانقلاب على انتظارات المواطنين مع عدم تقدير القوة النوعية للنخب اللائكية من لدن "حركة النهضة".

فلو تجاوزنا البنية السطحية لخطابات "الحداثيين"، فإننا سنجد أنفسنا خلال عشرية الانتقال الديمقراطي أمام خطابين استئصاليين يجد أولهما (أي الاستئصال الصلب) جذره الأعمق في السردية النازية (المقاربة الأمنية باعتبارها تَونسة "للحل النهائي")، حيث يحتل الإسلامي محل اليهودي باعتباره "الخارج المطلق" أو الشر المطلق الذي لا يقبل الإدماج ولا الاعتراف، فما بالك بـ"الاحترام" أو التوقير على حد عبارة المتصوفة. أما السردية الاستئصالية "الناعمة" فإنها تجد جذرها الأعمق في السردية الهندوسية، إذ يحتل فيها الإسلاميون محل طائفة المنبوذين من جهة حقوق المواطنة -أو التموقع في أجهزة الدولة- لكن دون أي استهدف أمني. إننا أمام شكلين من أشكال" العنصرية الثقافية" التي أفسدت الانتقال الديمقراطي وأنهكته بصراعاتها الهوياتية؛ التي لم يكن خراجها ليصب إلّا في خزائن المنظومة القديمة ونواتها الصلبة.

أما من جهة حركة النهضة، فإنها قد أدارت هي الأخرى مرحلة الانتقال الديمقراطي بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، مما جعلها تتبنى المنطق اليساري لغايات مختلفة. فلكي تتخلص من الآثار الكارثية لاستراتيجي الاستئصال، فإنها لم تعوّل على الشعب وعلى قواعدها الانتخابية، بل التجأت إلى "التطبيع" مع المنظومة القديمة وارتضت العمل معها بشروطها، حتى كادت تتحول إلى وتد/وطد جديد في حراسة المنظومة والدفاع عن خياراتها اللاشعبية واللاوطنية. ونحن هنا لا يعنينا أن نبحث في أسباب هذا الخيار الاستراتيجي، بل يعنينا فقط أن نشير إلى أن هذا الخيار قد ساهم إلى حد كبير في إفقادها رأسمالها الرمزي الأهم أي "المظلومية"، بل إنه قد حوّلها أمام الرأي العام -تحت تأثير الدعاية الإعلامية- إلى المسؤول الأول، وأحيانا المسؤول الأوحد، عن فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا.

العقل السياسي للمعارضة -بمختلف تشكيلاتها- لم يرتفع بعد إلى مستوى رهانات اللحظة عندما يعتبر أن خصمه هو الرئيس قيس سعيد ومشروعه السياسي. وهو لا يفعل ذلك إلا ليتجنب مواجهة الخصمين الحقيقيين لأي مشروع للتحرير الوطني: أولا، غياب مشروع مواطني جامع يتخلص من أصحاب "القضايا الصغرى" وسدنة الصراعات الهوياتية وما يحكمهم من منطق النفي المتبادل ومفردات الصراع الوجودي؛ ثانيا، العجز عن مواجهة منظومة الاستعمار الداخلي

لقد جاء "تصحيح المسار" ليدفع بهذا الواقع المأزوم والمتناقض بنيويا إلى نهاياته المنطقية: إنهاء وساطة الأحزاب ومختلف الأجسام الوسيطة وإرساء نظام رئاسوي. فقد أوجدت خطابات الكراهية والشيطنة المتبادلة -بالإضافة إلى الفشل في إدارة الملفين الاقتصادي والصحي في فترة كورونا- مناخا عاما يطبعه وجود "قابلية جماعية" لتغيير المشهد السياسي. لقد جاء تصحيح المسار ليحتكرَ علّة وجود مختلف المتصارعين على إدارة الشأن العام ولينهيَ الحاجة إليهم جميعا. فالرئيس لم يفعل شيئا إلا استثمار ما زرعته "العائلة الديمقراطية" من شيطنة لحركة النهضة، ولكنه لم يفعل ذلك لخدمة أجنداتهم (الاستئصال الصلب أو الاستئصال الناعم)، بل فعله لينهيَ الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل، أي لينهيَ دور الأجسام الوسيطة كلها بما فيها تلك المنتمية لما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية". كما أن الرئيس استثمر كل الخطابات المنتقدة للنقابات وللمجتمع المدني وللقضاء وللإعلام وهياكله التعديلية والمهنية -وهي خطابات كانت تصدر أساسا من أنصار النهضة وحلفائهم- ليستهدف هذه الكيانات في إطار سياسة الاستلحاق أو التدجين.

إن قراءة نتائج الانتخابات دون قراءة الفلسفة السياسية لتصحيح المسار وفهم علاقة التعامد الوظيفي بينه وبين الدولة العميقة -بل بينه وبين القوى الإقليمية ذات المصالح المادية الرمزية في تونس- هي قراءة اختزالية، أما قراءة تصحيح المسار باعتباره انقلابا على الانتقال الديمقراطي -أي الإصرار على "أمثلة" مرحلة الانتقال الديمقراطي وما حكمها من سرديات وخيارات لا وطنية ولا شعبية- فإنها قراءة مخادعة.

ونحن لا نجانب الصواب إذا ما قلنا بأن العقل السياسي للمعارضة -بمختلف تشكيلاتها- لم يرتفع بعد إلى مستوى رهانات اللحظة عندما يعتبر أن خصمه هو الرئيس قيس سعيد ومشروعه السياسي. وهو لا يفعل ذلك إلا ليتجنب مواجهة الخصمين الحقيقيين لأي مشروع للتحرير الوطني: أولا، غياب مشروع مواطني جامع يتخلص من أصحاب "القضايا الصغرى" وسدنة الصراعات الهوياتية وما يحكمهم من منطق النفي المتبادل ومفردات الصراع الوجودي؛ ثانيا، العجز عن مواجهة منظومة الاستعمار الداخلي وأساطيرها التأسيسية والتحول -رغم كل الادعاءات الذاتية- إلى مجرد أجسام وظيفية تتنافس في خدمة تلك المنظومة.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)