مدونات

في زمن التفاهة: ابن زيدون "يتوسل" لعمرو دياب

عادل العوفي
"كيف تواضع عمرو دياب وغنّى قصيدة أضحى التنائي بديلا من تدانينا؟ وكيف أغدق بكرمه على ابن زيدون وجعله يكسب هذا الشرف العظيم؟"- جيتي
"كيف تواضع عمرو دياب وغنّى قصيدة أضحى التنائي بديلا من تدانينا؟ وكيف أغدق بكرمه على ابن زيدون وجعله يكسب هذا الشرف العظيم؟"- جيتي
"إن التفاهة تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلا من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري: إنها تحيلنا إلى أغبياء".

تذكرت هذه الكلمات التي صاغها الكندي "آلان دونو" في كتابه الذائع الصيت "نظام التفاهة"، وأنا أشاهد بمحض الصدفة الكمية الهائلة من علامات التعجب والاستغراب وحتى "الاستنكار" التي طغت على محيا الإعلامية المصرية منى الشاذلي، وهي تتحدث لضيفها الموسيقي عزيز الشافعي عن كلمات من المفترض أن القاصي والداني يعرف أنها للشاعر الأندلسي "ابن زيدون"، وهي أشهر قصائده على الإطلاق، وظلت متناقلة حتى في المقررات الدراسية لأجيال متعددة في أغلب الدول العربية، لكنها "استهجنت" ونطقتها بشدة و"ازدراء"، رافعة شعارا عريضا مفاده: كيف "تواضع" عمرو دياب وغنى قصيدة "أضحى التنائي بديلا من تدانينا"؟ وكيف أغدق بكرمه على "ابن زيدون" وجعله يكسب هذا الشرف العظيم؟

طبعا لم يشفع لعزيز الشافعي تكراره بأن القصيدة مشهورة جدا، وأنه حفظها منذ دراسته الإعدادي؛ لكن ما سعت المذيعة لتكريسه والتركيز عليه، هو الإصرار على تعميق الهوة بين شبابنا واللغة العربية الفصحى، وكأنها "جسم دخيل ومكروه" ينبغي التوجس منه ومقابلته بالحذر، بدل السعي لتشجيع الخطوة وتعميمها عوضا عما نسمعه اليوم من كلام هابط وإسفاف مخجل في عالم الأغنية، لا سيما أننا نعيش في زمن "حسن شاكوش وحمو بيكا"، ومن يدور في فلكهما من مغنّي المهرجانات، وما يطرحونه من كوارث تهدد الناشئة وأخلاقهم.

لكن، بما أننا في عصر التفاهة ونكتوي بنيرانه، فقد صار مثيرا للسخرية سماع قصة حب ابن زيدون مع ولّادة بنت المستكفي، وبات مخجلا النهل من تراثنا الغني وإعادة تقديمه في قالب عصري حديث. وهنا، لا بد من الإشادة بشجاعة الموسيقي عزيز الشافعي، وبحثه عن التجدد واستثمار واحدة من أروع القصائد الأندلسية، وتقديمها بصوت فنان له قاعدة جماهيرية واسعة، لا نقاش ولا جدال حول ذلك، رغم اختلافنا معه في العديد من النقاط.

لست من هواة نظريات المؤامرة، غير أن المناخ العام في الإعلام العربي، وينعكس طبعا حتى على الواقع الفني الحالي، يحمل تفسيرات متعددة عنوانها الأول وجود رغبة "عارمة" لتغيير المفاهيم السائدة منذ عقود، والسير على نهج دخيل يتنفس عشق التفاهة والسطحية، وتغييب كل ما يشجع على التفكير السليم والنبش في دفاتر التاريخ العتيقة، والاستفادة من دروس الماضي الغابر وتقديم النماذج المضيئة، وتشويه الحقائق وخلق معارك وهمية وصراعات ثانوية، وإغراقنا في مستنقع الطائفية المقيت، واجترار أحداث غابرة تعزز التشرذم والفتن بين هذا وذاك. ومن المفارقات التي فضحت هذه الخطط القذرة، يكفي استحضار ما أحدثه "طوفان الأقصى" من شرخ وفرز للغث والسمين، وتعرية للواقع الفاضح الذي أضحى عليه الإعلام العربي اليوم.

فعلى سبيل المثال لا الحصر طبعا، كنا في سنوات خلت، نقابل الحراك السائد فنيا وإعلاميا بعد كل مجزرة صهيونية جديدة بالسخرية من التوجه العام نحو طرح "أوبريتات فنية"، تجمع فنانين من المحيط إلى الخليج وهم يصدحون بأعلى صوت متحدين، ينشدون "الحلم العربي" المسلوب، ويصرخون أحيانا باحثين عن "الضمير العربي" المفقود، على غرار مبادرات المنتج والمخرج أحمد العريان مثلا، ومجهوداته الجبارة في لمّ شمل الفنانين والإعلاميين لتوحيد الصرخة، وحينها كانت أغلب الفضائيات العربية "تتناوب" على العرض، وتستنكر وتشجب وتندد.

اليوم، وارتباطا بما سبق وذكرناه، صارت حتى عبارات "الشجب" مغيبة، واندثرت "الأوبريتات" وصار ممنوعا على الفنانين العرب إبداء مواقفهم، إلا من خلال نشر "بوست عام" يدعو للسلام والمحبة والإخاء، وإلا فسيف العقاب مسلط على رقابهم، ولهم في الفنان محمد سلام خير مثال. والمثير للسخرية، أن البعض قرر قبل فترة إعادة تقديم نسخة جديدة "مشوهة" من "الحلم العربي" الجديد على ما يبدو، حيث تغيرت كلمات من قبيل "أطفال الحجارة" وتعويضهم بأطفال يضحكون ويمرحون ويسرحون في عالم جديد وردي يملؤه الحب والسعادة.

طبعا هذا غيض من فيض ما أصبح يحكم الواقع الإعلام العربي اليوم، الذي يمكن اختصاره من خلال كتاب "نظام التفاهة". ومن هذا المنطلق، يمكن فهم واستيعاب سبب تغييب الأصوات الجادة وأصحاب المواقف والمبادئ، وتعويضهم بالدمى والكراكيز. ونختم بتوجيه الشكر الجزيل لـ"الهضبة" عمرو دياب؛ لأنه قدم طوق نجاة لـ"ابن زيدون"، ومنحه شرف الخلود حين "تبرع" بالمساهمة في شهرته ولو قليلا.

حقّا شر البلية ما يضحك..
التعليقات (0)