هذه لقطة جديرة بالرصد والملاحظة. طوال نهار أمس الأول (الثلاثاء 26/11) شهدت القاهرة مظاهرات خرجت احتجاجا ورفضا لقانون التظاهر الجديد ولمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. في المساء كانت حوارات القنوات الفضائية تنتقد المتظاهرين وتندد بهم. وإذا قمنا بتجميد المشهدين وتفرسنا جيدا في وجوه الذين خرجوا إلى الشوارع في النهار والذين ظهروا على شاشات التلفزيون في المساء، ثم أنصتنا إلى هؤلاء وهؤلاء، فسوف نكتشف أن الأولين يرددون أصوات وأشواق 25 يناير، وأن الأخيرين يمثلون تحالف نظام مبارك مع النظام الجديد الذي استجد بعد 3 يوليو. وإذا صح ذلك فهو يعني أننا بصدد لحظة كاشفة وبوادر ومنعطف مهم، يستصحب إرهاصات الإفاقة وعودة الوعي، يتجدد في ظلها تصويب المسيرة وإعادة ترتيب الصفوف ورسم خرائط الفعل السياسي في
مصر.
ليس ذلك مفاجئا تماما، لأن الروائح فاحت والقرائن تلاحقت خلال الأسابيع الماضية موحية بأن السكرة لن تستمر طويلا، وأن أوان الفكرة في الطريق. إذ لاحظنا خلال تلك الأسابيع أن وجوه عصر مبارك قد عادت إلى الشاشات وإلى المحيط الإعلامي مرة أخرى، وتابعنا ارتفاع منسوب الغمز في 25 يناير والتنديد والتجريم الذي استهدف الثائرين الذين خرجوا آنذاك. فقد وصفت الثورة بأنها نكسة ووكسة وقرأنا لمن وصف الثوار بأنهم «مرتزقة يناير»، ومن وصفهم بأنهم أولاد الشوارع.
بالتوازي مع ذلك تناهت إلى أسماعنا أصوات بعض المثقفين وعناصر النخبة الذين أبدوا تحفظاتهم على بعض الممارسات التي تجرى، حين لاحظوا أن المسيرة تنزلق في اتجاهات تتعارض مع قيم وروح ثورة 25 يناير، وكان الانسحاب السريع للدكتور محمد البرادعي من مؤسسة الحكم واستقالته من منصب نائب رئيس الجمهورية أول إشارة علنية في ذلك الاتجاه. تلك التحفظات لاحظناها أيضا في كتابات بعض المثقفين الذين انحازوا إلى الثورة وليس إلى السلطة، ومن ثم انفصلوا عن ركب المهللين والمتشنجين وتبنوا مواقف مستقلة وناقدة. ومنهم من كان من زبائن البرامج التلفزيونية، لكن مواقفهم التي أعلنوها حجبتهم بحيث ما عدنا نرى وجوههم على الشاشات.
ذكرى أحداث شارع محمد محمود التي حلت في 19 نوفمبر كانت علامة دالة في هذا الاتجاه. ذلك أن الجموع التي خرجت يومذاك أعادت إلى الأذهان أجواء ثورة 25 يناير التي جسدت حقيقة التلاحم الجماهيري من ناحية وحقيقة الخصم من ناحية ثانية ووحدة الأهداف والمطالب من ناحية ثالثة. وهي العناوين التي اهتزت وأصابها التآكل جراء الممارسات التي تعاقبت خلال السنوات الثلاث التي أعقبت الثورة. صحيح أن مظاهرات 19 نوفمبر لم تغير شيئا مما أصاب تلك العناوين، لكنها استحضرتها في الوعي والذاكرة على الأقل وأزالت بعضا مما ران عليها من صدأ.
إذا صح ذلك التحليل فهو يعني أننا على أبواب طور جديد في مسيرة الجماعة الوطنية المصرية، سمته الإفاقة وعودة الوعي. ولعلي ألمح في ذلك الطور القسمات التالية:?
* أنه يشكل وفاء لقيم وأهداف ثورة 25 يناير، التي عزز الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وهو ما يستصحب بالضرورة قطيعة مع نظام مبارك بممارساته القمعية وسياساته الاقتصادية التي قامت على الاستجداء والتبعية.
* أنه يرفض حكم الإخوان، ولا يرى سبيلا لاستعادة تلك التجربة بمختلف تجلياتها. وهناك اتجاهان داخل هذا الموقف، أحدهما يرفض نظام الإخوان ولا يرى خصومة مع الجماعة، ومن ثم يميز بين قيادة الجماعة وسياستها وبين قواعدها التي كانت شريكة في الثورة. والثاني يرفض الاثنين.
* أنه يرفض عسكرة الدولة المصرية، ويعارض إقحام الجيش في السياسة، أو إضفاء ميزات استثنائية للقوات المسلحة، مع الحفاظ على الاحترام لها شأنها في ذلك شأن بقية مؤسسات الدولة الوطنية.
* تبني موقف المفاصلة مع الفاشية الجديدة التي أصبحت تطل برأسها بين القوى المدنية، وعبرت عنها في الآونة الأخيرة أصوات بعض المثقفين والإعلاميين الذين أبدوا استعدادا مدهشا للتضحية بأهداف الثورة وحق الوطن مقابل الخلاص من حكم الإخوان.
* محاكمة المسؤولين عن كل الجرائم التي ارتكبت بحق الثوار والمجتمع سواء أثناء الثورة أو في ظل حكم المجلس العسكري أو حكم الإخوان أو حكم النظام القائم منذ الثالث من يوليو.
* إعادة هيكلة وزارة الداخلية بصورة شاملة، تطهرها من أدران الاستبداد والقمع الذي لا يزال يعشش في جنباتها، والتي يدفع المجتمع ثمنا باهظا لها كل حين.
* استعادة مصر لدورها القيادي القائم على الاستقلال الوطني في القرار والتحالفات الإقليمية والدولية، والمنطلق من ديمقراطية حقيقية تعبر عن إرادة الشعب دون تزوير أو تدليس.
إذ أرى هذه الإشارات في الأفق فإنني أرجو ألا أكون قد أفرطت في التفاؤل، وخلطت بين القسمات والأمنيات.
(عن الشرق القطرية)