في عام 1960 ألقى مهندس الحضارة الانسانية المفكر
مالك بن نبي رحمه الله محاضرة متطورة بعنوان (الديمقراطية في الاسلام) في نادي الطلبة بدمشق، ونُشرت لاحقا هذه المحاضرة في كتابيه (تأملات) و(القضايا الكبرى)، شخّص فيها بعمق حينها أزمة العالم العربي الاسلامي وقدّم فيها جهدا تنظيريا قيما، في الوقت الذي كان فيه بعضهم يكتفي فقط بتكفير فكرة الديمقراطية ولعنها من جذورها! ولقد ذكرت ابنته (د. رحمة بن نبي) في بعض حواراتها بأن مالك بن نبي (سيعود بعد ثلاثين سنة)، وذلك في اشارة منها الى الطرح المتقدم لوالدها الذي لم يستوعبه الاقلة من الناس حينها ويبدو أن هذا هو مصير من يطرحون أطروحات فكرية متقدمة داخل المجتمعات أو التنظيمات أو الاحزاب فلا يستطيع اقرانهم استيعاب تقدمهم فيقصونهم ويعزلونهم وقد يخوننهم للاسف! حيث أن ما كان يطرحه مالك وقتها لم يجد أذنا صاغية أو قلبا واعيا، وكان يشعر بالتجاهل الشديد لافكاره ، ولكنه كان مقتنعا بأن الاجيال اللاحقة ستدرك قيمته وتتعرف على أفكاره من جديد، ولقد صدقتْ العرب عندما كانت تقول في بعض حكمتها: (زامرُ الحيّ لا يُطرب!!).
قال مالك حينها باننا كأمة نعيش في وضع محكوم عليها أن تكون في موضع المغلوب والذي يفرض الغالب فيها قوانينه وعاداته، فاللقاء مع الغالب أنشأ لدينا (مركّب نقص) جعلنا نضم دائما الى عاداتنا وخصوصيتنا واسلامنا كل ما نعتقده ذا قيمة في الحضارة الغربية، ومن هنا فسّر سر الكتابات التي ظهرت في الخمسينيات والتي تحدثت عن (اشتراكية الاسلام) و(الاسلام والعدالة الاجتماعية) وغيره من العناوين المختلفة، فكانت المسالة أقرب الى رد الفعل العاطفي منها الى الاختيار العقلاني الذي يُمحص ما يأتيه من الاخر، وهو يرى أن عنوان محاضرته (الديمقراطية في الاسلام) يدل على هذه الالية التي تتحكم في عقولنا، وعندما قام بتحليل المفهومين الاسلام والديمقراطية الى أبسط التعريفات الممكنة وجد بأن الديمقراطية هي (سلطة الانسان) وأن الاسلام هو (خضوع الانسان ) لله، فهل يوجد وجه مقارنة بينهما؟ولكن هذا التبسيط لا ينتهي الى مناقضة بطبيعة الحال، وكان يؤكد في كتاباته الى عدم الوقوف عند المستوى اللفظي للكلمات، بل يجب تجاوز ذلك الى ما هو أعمق.
أكد مالك بأن الديمقراطية (شعور) قبل أن تكون ممارسة، بل يستحيل أن يكون هنالك ممارسة للديمقراطية بدون شعور ديمقراطي مكتسب عبر حراك مجتمعي قد يمتد قرونا أحيانا! يبدأ فيه هذا الشعور بالتطور فيولد صغيرا ثم ينمو الى مرحلة الاكتمال، وهذا الذي حصل في الغرب تحديدا، فالمرحلة مثلا ما قبل الثورة الفرنسية هي التي شكلت الحالة ونشأ شعور ديمقراطي حقيقي لدى الشعوب الاوروبية مما أدى في نهاية المطاف الى ممارسة ديمقراطية حقيقية، فالديمقراطية بحسب مالك، لايصلح لها انسان يتجاذبه شعوران متناقضان، شعور نحو ذاته (بالعبودية) وشعور نحو الاخر (بالاستعباد)، فالشرط للديمقراطية تحرير الانسان من هاتين الرذيلتين.
وهنا يفسر لنا هذا الفيلسوف سر فشل التجارب الديمقراطية في
العالم العربي قب أكثر من خمسين عاما في محاضرته!! فالمسألة تتعلق بغياب أساس البناء الديمقراطي وهو (الانسان الحر) فتطوير الانسان وتخليصه من قيد الاستعباد، وإعادة تقييمه هو نقطة البدء في أي بناء ديمقراطي مهما كان مضمونه وفلسفته بعد ذلك، وتحدث مالك حينها عن دور النخب والحكام الذين يتحدثون عن الديمقراطية وضرورتها، والذين تكمن مشكلتهم بانهم يعاملون شعوبهم (كرعايا) عليهم احسان السمع والطاعة، ويتصرف معهم من منطلق (الابوية) التي تفترض عدم رشد الشعب وعدم وعيه، وهذا ينسحب أيضا على بعض النخب وبعض الاحزاب التي لا تزال ترى بأن الشعوب قاصرة ولا تدري ما هي مصلحتها! فيكون هذا الشعب واعيا إن هو صوّت لصالحهم وغيرُ واع إن هو لم يُصوّت لهم!
نقطة اخرى مهمة جدا طرحها مالك تتعلق في أن المجتمعات العربية أخطات في محاكاة الغرب في حضارته فأخذت تُكثر من شراء واستيراد (أشياء الحضارة) وتقتنيها فتكدست لديها دون ان تخطو خطوة نحو الامام، فلدينا دساتير ونصوص دستورية مماثلة للذي تمت صياغته في الغرب، ولدينا مؤسسات ديمقراطية متعددة، ونستورد شهريا مؤسسات للتمكين الديمقراطي والتأهيل الديمقراطي، ونحاول امتلاك كافة الوسائل من مؤسسات مجتمع مدني، وانتخابات، وحديث مستمر عن تعزيز الشفافية وننسى الانسان والمجتمع والذي يجب أن نُكوّن ونعزز شعوره نحو نفسه ونحو ذاته حتى ينجح، وقد شاهدنا نموذجا إنجليزيا يتمتع فيه المجتمع هناك بديمقراطية متقدمة بدون وجود دستور مكتوب! ولكن وجدنا تقاليد شعب وعادات واوضاع نفسية متقدمة وعرف إجتماعي تحمي الشعب وتجعله يطبق الديمقراطية، فلا عجب مثلا أن نشاهد على مدى عشرات السنوات جمهوريات ملكية في العالم العربي!ونجد حكاما من أكثر الناس حديثا عن الديمقراطية واحترام الدستور واحترام مؤسسات الدولة، ونجدهم من أكثر الناس انتهاكا للدساتير والقفز فوق مؤسسات الدولة!
وهنا لا بد من الاشارة الى مسؤولية السلطة عن السلوك العام للمجتمع، وأزعم أن السلطة هي التي تربي الناس في مجال الاخلاق العامة والاجتماعية، وهي نفس الفكرة التي صاغها الفيلسوف الفرنسي (هليفتيوس) عندما قال: "ان التفاعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد فقط، فالشعب لا يؤثر في السلطة وانما تؤثر السلطة في خصائص الشعب وأخلاقه وأن السلطة في نهاية المطاف مسؤولة عن مساوئ الشعب كما أنها مسؤولة عن محاسنه" وهذا تماما ما نشاهده في الغرب من حُسن تنظيم وتدبير للقوانين بدءا بالشارع ومرورا بالبيت والمدرسة وانتهاء بالدولةوالرئيس ومؤسسة الحكم، واذا اردنا أن نتحدث بصراحة تدعو الى الكآبة فأن شعوبنا لم يتم تربيتها على الاعتدال، وأن شعوبنا لم تشارك في صناعة مستقبلها أو حاضرها، وتم تلقيننا دروسا في فن اقصاء الاخر ونفيه، مما انعكس على واقعنا واحزابنا وتنظيماتنا وأنفسنا، وانتقلنا كما يقول بعض السياسيين في وصفنا بأننا أمة أرادها الله سبحانه وتعالى (وسط) الى وصف واقعنا المؤسف بأننا اقرب الى أمة (غلط)، جنى الظلم علينا وتشوهنا نفسيا واجتماعيا وسياسيا.
ذكر ابن الاثير بأن الوليد بن عبد الملك كان صاحب بناء واتخاذ مصانع، فكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء والعمران، وكان سليمان بن عبد الملك صاحب طعام ونكاح، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن النكاح والطعام، وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن الخير: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ وكم تصوم في الشهر؟ فالناس على دين ملوكهم، ولعل المسؤولين في الاردن يلتقون ويسألون: كم سرقت في العام الماضي؟ وكم صفقة قد رتبت لأحفادك؟ وكم مؤسسة خاصة قد تربّحت منها؟ وكم من أقاربك وانسبائك وبناتك قد عيّنت؟ وكم من أموال الشعب قد غسلت؟ وكم من أموال الفوسفات قد جمعت؟
أعتب أحيانا على من يتباكون على الحراك الشعبي في الاردن ويخافون على انحساره، واقول بأننا قد بدأنا الطريق للتو، وأن حجم الانجازات التي تم انجازها في النفوس والمجتمع كبير، وطريقنا طويل، ولكن أملنا كبير، في تغيير العقول والنفوس وبالتالي تغيير الشعور.
بعد كل هذا الوصف هل ستنجح الديمقراطية لدينا؟