مع فشل التجربة "الإصلاحية الإسلامية" في لعبة السياسة عبر تكرار منظومة الانقلاب بداية من الجزائر مرورا بفلسطين والكويت وانتهاءا بمصر؛ تجد الحالة الإسلامية الحركية نفسها حائرة بين تجربة فاشلة عجزت عن ربط المشروع الإسلامي بمسار السلطة، وجوبهت بإجابة قاسية جدا من الأنظمة الفاشية التي تحكم المنطقة مفادها أنه لا مجال مطلقا لتنفيذ أجندة إسلامية إصلاحية من داخل الدولة القومية الحديثة في المنطقة، إذ أن الارتباط العضوي بين هذه الدولة وبين الاستبداد هو أمر تاريخي عميق جدا لدرجة التوأمة السيامية التي لا يمكن فصلها، بحيث أن الفصل بين الدولة ومنظومة الاستبداد العسكري والبيروقراطي سينتهي حتما بموت الطرفين غالبا.
وهذه القناعات التي بدأت تتبدى لنا في منتصف الطريق بين ثورة يناير وانقلاب يوليو أصبحت جلية جدا وواضحة بعد فض رابعة وقتل الآلاف بدم بارد، مما استدعى في العقل الاسلامي مراجعات كثيرة لكنها مازالت في طور النضوج؛ واستجابات متعددة مازالت في طور التكون. ولعل أهم تلك الاستجابات هو العودة لقراءة طرح
سيد قطب ومسار الجماعة والموقف من العملية السياسية، فقد كان سلوك حسن البنا رافضا للعبة الديمقراطية تماما عبر رفضه لمقدمتها المنطقية وهي "الأحزاب السياسية"، وعليه لم تدخل الجماعة بشكل "رسمي" وكامل لعبة الديمقراطية وركزت اهتماماتها على التدافع السياسي والدعوي والمجتمعي العام .
وأخذ طور الجماعة في النضوج وأطروحاتها في البروز مع الهجمة الأيديولوجية الفاشية للقومية العربية والقومية
المصرية عبر أفكار سيد قطب، الذي واجه تحديا فكريا لم يطرح من قبل أمام الحالة الإسلامية وهو مسألة تصعيد الهويات الجزئية وتضخيم الحس القومي، وهذا في نظر سيد "جاهلية" وعودة عن التصور الإسلامي الذي لا يعترف بهوية متجاوزة لكيان المسلم غير هويته الاسلامية وأن أي هوية أخرى تأتي بعد الإسلام لا قبله فهو يقول " إن راية المسلم التي يحامي عنها؛ هي عقيدته، ووطنه الذي يجاهد من أجله؛ هو البلد الذي تقام في شريعة الله" ، وبالتالي فإنه يتجاوز مفهوم الولاء للدولة الوطنية تماما التي يراها هي أصل الداء وأداة الانقلاب على الخلافة والمفهوم البديل الذي صنعه الغرب للخلافة بعد تمزيقها، وأن العودة للمفهوم ا?ول تتطلب تجاوز المفهوم الحالي لا التعايش معه .
و بعد انتهاء موجة الستينات وصولا إلى نهاية السبعينات بالتحديد، بدأت جماعة "
الإخوان المسلمون" تتجاوز طرح سيد قطب وأثره لتتفاعل مع موجة الليبرالية الجديدة. ومع دخول مجموعات ممن لم يتربوا داخل الجماعة أو على أدبياتها القديمة وانما نشأوا في إطار إسلامي عام مثل "أبو الفتوح" و "العريان" وغيرهم من مجموعة الجماعة الإسلامية المتحولة للاخوان في الجامعات، سعى "عمر التلمساني" مرشد الإخوان وقتذاك لدمج الجماعة في كيان الدولة الوطنية عبر المشاركة في النقابات والاتحادات وخلافها، والتهيئة لفكرة المشاركة الانتخابية لاحقا التي طبقت في الثمانينات، وعلى الرغم من بعض المشادات الكلامية بين السادات والتلمساني وغيره إلا أن سلوك الدولة تجاه الاخوان وطريقهم الجديد كان ممهدا بالتجاهل الأمني والتفهم من قبل الدولة
وما أن بدأت مرحلة مبارك إلا وشهدت أول مشاركة للإخوان كجماعة في انتخابات البرلمان، ثم تطور الوضع لاحقا لتنضج الجماعة رؤيتها للإصلاح في سنين الألفية الجديدة وتندمج أكثر بأكثر بفكرة الإصلاح من داخل مؤسسات الدولة الوطنية مرورا عبر انتخابات 2005 ثم 2010، ثم جاءت الثورة لتطور فكرة الإصلاح لفكرة السيطرة على السلطة ذاتها عبر السعي لنيل الاغلبية السيطرة على منصب الرئاسة في دولة قومية، وبهذا انتهت تجربة الإخوان إلى ما يشبه الحزب السياسي أقرب منها إلى جماعة إسلامية لها مشكلاتها مع الدولة القومية .
ثم جاء الانقلاب بكل كوارثه ليعيد ذكريات الستينات وليصدم الجماعة وغالبية التيار الإسلامي بالفكرة القائلة بالإصلاح عبر الدولة والانتخابات والبرلمان وليعيد مرة أخرى أفكار سيد قطب للمشهد، لتصبح هذه الأفكار الغائب الحاضر بكل أطروحاتها التي اصبحت مثار حديث الغالبية داخل الصف الاسلامي، التي تسعى لإعادة تقييم أفكار المرحلة السابقة وتجاربها، في محاولة لاستشراف مستقبل يتخفى خلف ضباب الواقع المشؤوم، وتحت ركام تجربة كان التعويل عليها قد بلغ عنان السماء !